محمد العريان * تنفيذ بعض مشاريع برنامج الصين الطموح «الحزام والطريق»، أدى إلى تزايد المخاوف بشأن انعدام الشفافية في الشروط والأحكام، وتفاقم مديونية بعض الاقتصادات النامية الأكثر ضعفاً يلقي تباطؤ الاقتصاد الصيني، إلى جانب الأدلة المتزايدة على الضغوط التي يتعرض لها النمو في الاقتصاد الأوروبي، بستائر من الشك بشأن الاقتصاد العالمي خلال عام 2019. فقد كشفت البيانات الصينية التي صدرت مؤخراً عن صورة إيجابية فيما يخص الاستقرار قصير الأجل، ولكن لا توجد حتى الآن أدلة مقنعة على ما يضمن تحقيق النمو المستدام، أو عن مسار أقل غموضاً لاقتصاد عالمي يتميز بأداء متباين بين أهم مكوناته. وعلى مدى عقود، نجحت الصين في تسخير معطيات الاقتصاد العالمي بمهارة كقوة إضافية لزيادة تحولات الطلب والعرض المفيدة والقوية في الداخل، سواء من خلال الوصول إلى الأسواق الأجنبية أو توسيع نطاق الإنتاج والدخل والعمالة، أو من خلال استيراد الخبرات التكنولوجية التي تعزز الإنتاجية وتزيد من قدرات الصين التنافسية في جميع مكونات سلسلة القيمة المضافة العالمية. ولا يمكننا سوى الإقرار بأن هذه الجهود زادت من تأثير إدارة السياسة الاقتصادية المثيرة للإعجاب على الناتج العام، والتي أخرجت مئات الملايين من المواطنين من براثن الفقر، ورفعت معدلات النمو إلى المستوى الذي كان وراء تحويل هذه الدولة الآسيوية إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن في الآونة الأخيرة، تحولت عوامل الدفع تلك إلى رياح معاكسة تتميز بثلاثة عناصر رئيسية. أولها أن ديناميكية أسواق الصادرات الصينية تراجعت، خاصة في أوروبا. والثاني فرض الولايات المتحدة تعرفة جمركية على الواردات الصينية وهددت بمزيد من الإجراءات لكبح استخدام الصين للحواجز غير الجمركية وسرقة الملكية الفكرية. أما الثالث فهو أن تنفيذ بعض مشاريع برنامج الصين الطموح «الحزام والطريق»، أدى إلى تزايد المخاوف بشأن انعدام الشفافية في الشروط والأحكام، وتفاقم مديونية بعض الاقتصادات النامية الأكثر ضعفاً، وحتى قضايا الأمن القومي. وانعكس ذلك في تدهور المؤشرات الاقتصادية المحلية. وقد اختارت السلطات الصينية مجموعة قوية من إجراءات التحفيز، بما في ذلك تدابير السياسة النقدية والمالية التوسعية وإعادة هيكلة خطط الشركات المملوكة للدولة. ومع ذلك، فإن الأدلة الأولية على فعالية جولة التحفيز هذه كانت أقل تشجيعاً، على الأقل حتى وقت قريب. لقد تأخر تجاوب الاقتصاد الصيني معها كثيراً. وفي الوقت نفسه، زادت المخاوف بشأن الأضرار الجانبية. كما برزت مجموعة من التناقضات المحتملة مع الإصلاحات الهيكلية على المدى الطويل اللازمة لمواصلة دعم الاقتصاد الصيني من خلال تحولات الطبقة الوسطى، وهي واحدة من أصعب المراحل في عملية التنمية. وكان هذا التحول قد أدى إلى تعثر العديد من البلدان النامية في العقود الماضية، بما في ذلك الأرجنتين والبرازيل، مما عزز فكرة «فخ الدخل المتوسط». ومع ذلك، تشير البيانات الأكثر حداثة إلى أن تدابير التحفيز بدأت في التسبب بمشاكل مؤلمة. فقد ارتبط انتعاش أرقام مؤشر مديري المشتريات الأخير بظهور دلالات على وجود قدر كبير من الائتمان يشق طريقه إلى الاقتصاد. وفي ظل انتعاش الصادرات لشهر مارس (بعد هبوطها الشديد في فبراير )، وفي ظل توقعات متزايدة بتوصل الصين والولايات المتحدة إلى صفقة تجارية في الأسابيع القليلة المقبلة، يصبح التفاؤل بانتعاش النمو مبرراً. هذه لا شك بشائر طيبة للاقتصاد العالمي وللأسواق. فتوقعات صندوق النقد الدولي التي صدرت الأسبوع الماضي تشير إلى تباطؤ أكثر من ثلثي اقتصادات العالم في عام 2019. وقد تمت مواجهة التأثير السلبي للتباطؤ على أسعار الأصول المالية من خلال التراجع الذي طرأ على موقف مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الربع الأول من هذا العام، ولكن استمرار اعتماد الأسواق على البنوك المركزية يغذي القلق بشأن الاستدامة والمخاطر التي تهدد الاستقرار المالي. ومن السابق لأوانه عموماً اعتبار هذا الانتعاش قصير الأجل باعثاً على تفاؤل قوي طويل الأجل سواء لاقتصاد الصين أوالاقتصاد العالمي. وتدرك السلطات الصينية أن البلاد بحاجة إلى إعادة تركيز السياسة على عمليات التنفيذ المستمر لتدابير الإصلاح الأكثر جوهرية والتي لا بد منها لدفع عجلة الاقتصاد الذي يزداد تعقيداً. وهذا معناه أن إجراءات التحفيز قصيرة الأجل تفقد فاعليتها مع مرور الوقت، كما إنها تتعارض مع أهداف السلطات المعلنة المتمثلة في التخلص من جيوب الاقتصاد المثقلة بالديون، وتقليل الاعتماد على الشركات الحكومية غير الفعالة. ويمكن أن تقوض الإجراءات قصيرة الأجل رغبة السلطات في تعميق الأسواق المالية المحلية، والحد من تقلباتها التي يحتمل أن تزعزع الاستقرار، وينبغي أن تدعمها بأساسيات اقتصاد سليمة ومستدامة. ومن السابق لأوانه أيضاً الاطمئنان على سلامة الاقتصاد العالمي. فبالإضافة إلى المخاوف بشأن استدامة النشاط الاقتصادي الصيني، هناك أسئلة مهمة حول صحة أوروبا لم تتم معالجتها من خلال إجراءات سياسية حاسمة. فالاقتصادات الخمسة الكبرى (فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة) تتعرض لمزيد من الضغط. ولا تزال التوترات تقوض فرص التنسيق السياسي الإقليمي وصياغته وتنفيذه، بما في ذلك التوترات المحيطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوتر بين ألمانيا وفرنسا، وفرنسا وإيطاليا، وإيطاليا والسلطات الأوروبية، والسلطات الأوروبية والمجر. كما أن معدلات النمو في المنطقة تقترب بسرعة من الصفر. و تتعرض بعض الاقتصادات الأكثر ضعفاً للخطر بشكل خاص، بما في ذلك إيطاليا، حيث تهدد استمرار ظروف الركود من جديد بإثارة المخاوف بشأن القدرة على تحمل الديون على المدى الطويل. وربما يشكل الاستقرار في الاقتصاد الصيني خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، عنصر طمأنة لمواطني الصين وللاقتصاد العالمي. لكن الاحتمالات طويلة الأجل لكليهما تظل غير مؤكدة. ولا شك أن صحة الاقتصاد العالمي والأسواق بحاجة إلى المزيد. فهي تتطلب أولاً توفر الإرادة السياسية الأوروبية، على الصعيدين الوطني والإقليمي، لتنفيذ السياسات الداعمة للنمو التي تحول دون الوقوع في فخ الركود الاقتصادي، والحد من مخاطر تقلبات سوق الديون، وتخفيف ضغوط التبعثر الإقليمي والسماح بحيز مناورة سياسية محلية أقل تعقيداً. وهذه ترتيبات تحتاج لزمن أطول بكثير مما تحتاج إليه الصين، على الرغم من أن أوروبا قطعت أشواطاً أطول في عملية التنمية. * كبير المحللين في شركة أليانز (المقال منشور في بلومبيرج)
مشاركة :