لا حديث هذه الأيام إلاّ عن الحريق الهائل الذي اندلع في كنيسة نوتردام بباريس وهز فرنسا كلها، وحظي بتعاطف العالم بأسره، فنوتردام، خلافا لبرج إيفل الذي يعتبر معلما سياحيا بالدرجة الأولى، هي قلب باريس النابض، وجزء من هوية فرنسا منذ ثمانية قرون. وقد شهدت منذ تأسيسها أحداثا جللت تاريخ فرنسا، إذ عقد في رحابها فيليب لوبيل الجلسات العامة للمملكة أثناء حربه ضد البابا، وفيها توّج شارل السادس ثم ماري ستيارت، وفيها أيضا احتفل شارل السابع باسترداد عاصمته من الإنكليز والبورغينيون، وعقد المحكمة الأسقفية لردّ الاعتبار لجان دارك. كما شهدت زواج الملك مارغو من هنري دو نافار، وتنصيب نابليون بونابرت إمبراطورا، وقد خلد الفنان الفرنسي جان لويس دفيد لحظة تسلمه التاج من البابا ليكلل به رأسه، ثم تنصيب زوجته جوزفين، وابن أخيه نابليون الثالث. ولم تفلح الثورة الفرنسية، التي حاولت أن تجعل منها “معبدا للعقل” بعد أن حوّلت حجراتها وقاعاتها إلى مخازن وصهرت نواقيسها لصنع المدافع، في إزالة بريقها، ورغم قانون الفصل بين الدين والدولة، ظلت نوتردام تقيم الصلوات على أرواح الزعماء الراحلين من شارل ديغول إلى فرنسوا ميتران، مرورا بجورج بومبيدو. وكان من الطبيعي أن ينجذب الأدباء والفنانون إلى هذا المعلَم، الذي يجمع إلى التاريخ الثري هندسة بديعة، وموقعا هاما على ضفاف نهر السين، ولعل أشهر من خلّد هذه الكنيسة فيكتور هوغو صاحب “البؤساء”، في “نوتردام باريس”، تلك الرواية الضخمة التي ثبّتت ذلك المعلم في المخيال الشعبي، وقد قفزت مبيعاتها هذه الأيام بشكل مذهل، إما لاكتشافها بعد أن تصدرت منابر وسائل الإعلام، أو لاسترجاع صورة بطلها الأحدب كازيمودو، وحبيبته الغجرية الحسناء إسميرالدا، وكذلك صورة باريس في جزيرة “لاسيتي” في ذلك الوقت، وكانت من أفقر أحياء باريس، تعج بالحمّالين والنشالين والشحاذين والمومسات. وكان هوغو قد كتب يقول عام 1831 “امتدت كل الأبصار نحو أعلى الكنيسة، ما رأته كان شيئا عجبا. في قمة الرواق الأكثر علوّا، أعلى من النافذة الدائرية المركزية، كانت هناك شعلة كبيرة تتصاعد بين الناقوسين مع شرر مُتناثر، شعلة كبيرة مضطربة هائجة تحمل الريح منها أحيانا مزقة وسط الدخان”، وكأنه تنبأ في روايته تلك بما سيحيق بهذه الكنيسة الشهيرة. ثم تلاه أوجين سو برواية “أسرار باريس” رسم فيها ملامح هذا الحي الشعبي آنذاك.وقبلهما كان جيرار دو نرفال قد ألف قصيدا بعنوان “نوتردام باريس” قال فيه “نوتردام عجوز هرمة، قد نراها ربما/ تدفن باريس التي شهدت مولدها/ ولكن، بعد ألف عام، سيهدها الزمن/.. وسوف يأتي الناس، من كل بلدان الأرض/ ليتأملوا هذا الخراب القاتم/ فيخيّل إليهم أنهم يرون الكنيسة القديمة/ كما كانت، قوية رائعة، تنهض أمامهم مثل شبح ميت”. والقائمة طويلة من تيوفيل غوتيي إلى شارل بيغي مرورا بلويس أراغون، وكان قد صوّر في قصيد بعنوان “باريس 42” كنيسة نوتردام كرمز للمقاومة والصمود في مدينة الأنوار التي تقاوم المآسي، لاسيما الحرب. ولم يتخلف الفنانون المنبهرون بذلك المعلم الكاثوليكي الشامخ عن استلهام هندسته القوطية، وتناظر برجيه، ودقة نقوشه، وفرادة منحوتاته، فضلا عن الموقع الذي أحلها في جزيرة صغيرة يلتف حولها نهر السين. وقد جاءت اللوحات متماهية مع الحركات الفنية القائمة في كل مرحلة، من الرومانسية إلى التعبيرية والانطباعية والتجريدية والتكعيبية، نجد ذلك مع هنري ماتيس الذي رسم الكاتدرائية عام 1900، ثم عام 1902، وبابلو بيكاسو الذي رسمها مرتين هو أيضا، الأولى عام 1944، والثانية عام 1954، ومارك شاغال في لوحة باللون الرمادي عام 1955، والأميركي إدوارد هوبر عام 1957. إلى جانب أسماء أخرى أمثال فنسان أورفات، وإدوار كورتيس، وجورج ديفرينوا، وبرنار بوفي، ومكسيمليان لوس، وغوستاف لوازو، وسيلفيو غانيون، وفرانز هيربيلو.. جعلوا نوتردام في الصدارة أو التقطوها من شرفة أو نافذة أو مرتفع من مرتفعات المدينة. وإذا كان هوغو قد جعل نوتردام شخصية محورية في روايته التي خلدها في السينما أنطوني كوين وجينا لولوبريجيدا، فإن الفنانين أيضا جعلوها رمزا جماليا وخلدوها على طريقتهم، في لوحات فنية متنوعة.
مشاركة :