تميل الحكومة الأميركية إلى اعتماد العقوبات المفروضة على روسيا من واقع أنها سياسة خفيضة التكلفة وسوف تجبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نهاية الأمر على تغيير منهجه حيال أوكرانيا. غير أن تلك الحكمة التقليدية تحجب بالفعل تكاليف أكبر بكثير. فكما أن استخدام الطائرات من دون طيار في استهداف الإرهابيين المشتبه بهم في باكستان دفع بالكثيرين إلى التحول إلى التشدد العنيف بدلا من القضاء على تلك الظاهرة تماما، فإن دعاة العقوبات الاقتصادية لم يحسبوا الحساب للعواقب اللاحقة غير المقصودة لتلك السياسة، وهي العواقب التي قد ترجع بالضرر الكثير على المصالح الأميركية أكثر من عدوان الكرملين الحالي على أوكرانيا. بادئ ذي بدء، تستغل الولايات المتحدة، المهندس الأول والمستفيد الأكبر من النظام العولمي للتجارة والتمويل، الاندماج الروسي لما بعد الحقبة السوفياتية داخل ذلك النظام، من خلال تطويع العقوبات التجارية والمالية على روسيا؛ ردا على تصرفاتها العدوانية في أوكرانيا. سنوات التقدم والمنفعة المتبادلة التي نقلت 140 مليون مواطن روسي إلى مصاف الإدارة الاقتصادية العالمية صارت الآن محل شكوك عميقة. وحتى إذا نجحت العقوبات في تغيير مسار الكرملين وسلوكياته تجاه أوكرانيا ثم رُفعت تلك العقوبات، يكون هدف الولايات المتحدة من دمج روسيا داخل النظام الاقتصادي العالمي قد تم تقويضه. ثانيا، ينقل استخدام العقوبات إلى الآخرين مخاطر الاندماج داخل النظام المالي العالمي الخاضع لسيطرة الولايات المتحدة. بصرف النظر عن نتائج التدخل الروسي في الشأن الأوكراني، وبصرف النظر كذلك عن المصير الأخير لبوتين، فالدول غير الحليفة للولايات المتحدة تلقت الآن درسا مفاده أن الاندماج المؤسسي، الشاق والعسير، يمكن أن يتحول إلى سلاح في مواجهة تلك الدول التي سعت في البداية لتحقيقه. ثالثا، ما من شك في أن العقوبات المفروضة على روسيا قد كبدت البلاد تكاليف حقيقة بالنسبة للشركات المملوكة للدولة وللشركات التابعة للدول على حد سواء، كما ألحقت الضرر بالمقربين من السيد بوتين، إلا أن الأضرار الجانبية التي نالت المؤسسات الخاصة والمستقلة في روسيا كانت أسوأ بكثير على أي مقياس؛ فالشركات العاملة من دون حماية سياسية تتدهور لديها المبيعات بصورة حادة، حيث لا يمكن الوصول إلى التمويل المناسب، ويجري تأجيل الاستثمارات الضرورية لآجال غير مسماة. تعرضت تلك الشركات لأقصى درجات الضرر، وهي التي أسندت جل أعمالها إلى الاندماج الروسي مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة. إن أجرأ دعاة التغريب بين طبقة صغار رجال الأعمال الروس يجدون أنفسهم الآن في وضع لا يحسدون عليه، ومن دون حماية تذكر، في حين أن البنوك الحكومية وشركات الطاقة مستمرة في إقصائهم عن الحصول على القروض الحكومية التي تُمنح بشروط ميسرة. رابعا، منحت واشنطن السيد بوتين، من خلال فرض العقوبات على روسيا التي كانت بالفعل قد سقطت في دوامة الهبوط الاقتصادي، مبررا سياسيا قويا لإلقاء اللوم على عواقب قراراته المشؤومة في أوكرانيا. خامسا، حتى إذا أعدت العقوبات بمهارة وعناية فائقة لمعاقبة فاعلين محددين، فإن المواطن الروسي العادي ينظر إلى العقوبات الغربية باعتبارها موجهة إليه شخصيا، وأنه الوحيد المضطر لتحمل التكاليف الحقيقية لارتفاع التضخم، وانهيار الروبل، والنمو المتثاقل. إن الشعور الروسي بأن الشعب يتعرض للهجوم ولد لديه مفهوم الاحتشاد خلف راية البلاد. وإحدى نتائج تلك الظاهرة هي استطلاعات الرأي دائمة التأييد للسيد بوتين داخليا، ونتيجة أخرى هي التهميش شبه الكامل لأصوات المعارضة الروسية. إذا واجهت روسيا اضطرابات اقتصادية أكبر خلال الشهور أو السنوات المقبلة، فسوف تواجه الولايات المتحدة مشكلات أعمق تعقيدا بكثير من التي تواجهها فعليا اليوم. من المرجح لروسيا أن تكون أكثر عدائية إذا ما عمقت العقوبات الاقتصادية المفروضة من الخارج من أزمتها الداخلية. وعلاوة على ذلك، فإن الانكماش الاقتصادي الروسي العميق سوف يفاقم من المشكلات الاقتصادية لدى الاتحاد الأوروبي، مع احتمال انتشار آثار تلك المشكلات على الصعيد العالمي. كانت الجولة الأولى من العقوبات المفروضة على روسيا ذات مغزى؛ حيث إن روسيا، بضمها لشبه جزيرة القرم، لم تقفز فقط على الأعراف والمعايير الدولية الرئيسية، ولكنها رسخت بذلك التصرف لانتهاكات شائنة تتصل بعقود مقبلة من الزمن. كان على الولايات المتحدة التعبير عن أن مثل تلك الانتهاكات تستلزم عواقب معينة حتى تحول بين روسيا وإرساء دعائم سابقة دولية خطيرة. فالعقوبات المستهدفة والخاصة بقضية القرم، التي منعت روسيا من الإفادة من نتائج ضمها لشبه الجزيرة، خدمت الغرض المرجو منها. لكن روسيا، مما لا شك فيه، قد انتهكت المعايير الدولية مجددا في شرق أوكرانيا. يعترف الكثير من صناع السياسة سرا بهذا، ولكنهم يردون متسائلين: «ما الذي يمكننا فعله غير ذلك؟»، وإنه لسؤال جدير بالطرح. وحيث إنه ما من تدابير قسرية مجدية من شأنها منع السيد بوتين من دعم قوات التمرد في شرق أوكرانيا، كان الخيار الوحيد، ولا يزال، هو التفاوض؛ من أجل الحد من المعاناة التي يسببها الكرملين للسكان العزل وتجنبا لمواجهة واسعة النطاق وأكثر خطورة على شاكلة الحرب الباردة. غير أن المحادثات المتعلقة بأوكرانيا فقط، على غرار تلك التي عقدت في مينسك الشهر الماضي، من شأنها في أحسن أحوالها الخروج بوقف مؤقت لإطلاق النار في الصراع الجاري من روسيا والغرب. فلا يمكن إنهاء هذا الصراع بشكل نهائي إلا من خلال اتفاقية واسعة على أسس من الأمن الإقليمي. ويمكن استخدام التخفيف من العقوبات الاقتصادية كورقة مساومة لتعزيز مثل تلك الاتفاقية. أما البديل المطروح فلن يكون إلا حزمة مفتوحة من العقوبات تزيد من حدة التصعيد بين واشنطن وموسكو وتؤثر في الوقت ذاته على الاقتصاد والسياسة الروسية بصورة تتعارض والمصالح الأميركية. يمكن للسيد بوتين تعزيز سيطرته الكبيرة على اقتصاد البلاد وحشد الجماهير حوله، غير أن تطور روسيا كدولة حديثة، وذات اندماج وتفاعل عالمي، سوف يتوقف. من الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة واجهت كابوسا مروعا من سقوط روسيا في هوة الفوضى عقب تفكك الاتحاد السوفياتي القديم وانهياره؛ حيث كانت الحكومة الروسية مفلسة، ومقدرتها على السيطرة على أقاليمها وترسانتها النووية الضخمة كانت محل تهديد. في ذلك الوقت، انتهت واشنطن إلى أن روسيا الضعيفة قد تُشكل تهديدا خطيرا للغاية للأمن القومي الأميركي. فلماذا تعتبر تلك الحسابات مختلفة الآن عنها حينها؟ * خدمة «نيويورك تايمز»
مشاركة :