حاول الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن، في روايته «مانفيستو الديك النوبي»، أن يقف على بعض ما يمثل جزءاً من التراث والأساطير في السودان، من خلال الحديث عن بعض محطات وعوالم ومعطيات الحياة السودانية وتاريخها الاجتماعي، التي ربما تكون مهمشة لدى كثير من أبناء الأمة العربية عامة، والجيل الشبابي السوداني بشكل خاص. ففي السودان، وفي أي دولة في العالم، ما يميزها عن غيرها، خصوصاً ما يتعلق بالعادات والأعراف وبعض المسلكيات الحياتية، ومن الخصوصية الثقافية التي أشارت لها الرواية تقديم القرابين لنهر النيل، وهي خصوصية لمصر والسودان. فحين يفيض النيل، تقدم له فتاة جميلة قرباناً من أجل هدوئه واستكانته. ويقف الكاتب عند بعض الأساطير التي باتت في عمق الذاكرة الثقافية والاجتماعية للشعب السوداني، المتمثلة في السحر والشعوذة والفأل والخرافات التي تصل إلى الغرائبية، وها هي ميرام «حزينة من أجل أبيها، ويتقطع قلبها ألماً عندما تسمع هلوساته، وتظن أن أباها قد أصيب بمس من الجنون أتى به من آبار الذهب، مثله مثل كل الذين أصيبوا بجنون الديك - ص 294»، هذا الديك الذي يمثل خصوصية ثقافية في مجتمع تنتشر في كثير من المعتقدات والأعراف المتكئة على الخرافات والغيبيات والتهيؤات والخزعبلات. وهنا توضح الرواية أن الديك «لم يظهر للآخرين غير مرة واحدة، ولكن الساحرة تقول: إنها تراه في كل وقت وكل يوم، وهذا أمر مشكوك فيه - ص 287». وما الحديث عن السحر والخرافات بشيء غريب في الذاكرة الثقافية العربية، حيث إن تراثنا العربي مملوء بمثل هذه الثقافة، وحكايات ألف ليلة وليلة من الأدلة الدامغة على حضور السحر والخزعبلات والشعوذة، بل أعتقد أن ممارسة هذه الأعمال لم تكن وليدة في تراثنا فحسب، وإنما هي ظاهرة برزت لاعتقاد الإنسان بالحاجة لها من أجل التغلب على مصاعب الحياة والدفاع عن نفسه، أي أن السحر كان إحدى الوسائل التي كان يراها الإنسان في قديم الزمان، لما لها من طاقة وقدرة على جعله قادراً على العيش في مجتمع الغابات والوحوش والحيوانات المفترسة، بل إن تجذرها في الثقافة العربية نابع من كيفية تعاملنا مع هذه الظواهر والمعتقدات ثقافياً واجتماعياً، حيث أشار بنسالم حميش، في كتابه «نقد ثقافة وبداوة الفكر»، إلى أن «الثقافة الغالبة بيننا هي ثقافة ندرة الحوار وسوئه، الناجمة حتماً عن ظاهرة القراءات الانتقائية أو السطحية العجلى، التي تسهم أيما إسهام في خلق جو ثقافي واهن، مشحون بالخدع والحقائق المعكوسة - ص 149». ولكن الكاتب بيّن أن هناك بيضة للديك، وهي بيضة من الذهب، وبيعها بمبلغ يصل إلى ما يفوق (95) مليون جنيه سوداني، وهذا ما كشفته الرواية من خلال عائلة فتح الله فراج، ومسيرة حياته التي تحولت من الفقر المدقع إلى الغنى والثروة والكسب، وذلك من خلال بيضة الديك الذهبية التي باضها ديك صديق عمره جبريل. وهكذا، أدخل فتح الله فراج «ذراعه الطويلة في القفص المصنوع من السلك، وأخذ يحسب البيض... لاحظ أن هنالك بيضة صغيرة... فهي بيضة الديك، ويطلق عليها بيضة الهواء، ولكنه حين رفعها بأصابعه أحس أنها ثقيلة... أخذ حجراً صغيراً وطرقها... لم تصدر صوتاً مألوفاً، بل كان صوتها أقرب إلى صليل معدن ما... طرقها بقوة فأخذت تتساقط عن سطحها القشرة البيضاء السميكة، ليطل عنصر صلد لامع وكأنه الذهب - ص 47». وكشفت رواية «نساء المدن البعيدة»، لشيرين خطيب، عن تلك المجتمعات الريفية التي تقع في سوريا، أو أي مكان من العالم العربي، حيث العادات والتقاليد والأعراف المتوارثة بين الأجيال، من خلال الشيخ حاتم الذي كان يستغل سذاجة المجتمع عامة، والنساء على وجه الخصوص، تجاه الدين، والحصول على ما ينقصهن تجاه الزواج أو الإنجاب أو حتى العلاقـات العاطفيـة وغيرها، التي يقـوم عليها رجـال الشعوذة والسحر والخرافات والخزعبلات، عبر عمل الأوراق والأحراز وفك السحر «فكيف وصل إلى هذه البلدة، وصار شيخاً في لحظة مجهولة؟ وكيف تعلم أصول عمل الحجابات؟ وكيف عثر لنفسه على أسلوبه الخاص في هذه الحياة؟ لا أحد يدري، إلا أن أغلبية أهل البلدة كانوا ينظرون إليه نظرة احترام وقداسة، وربما بسبب عزلته الدائمة المغلفة بهالة أسطورية... والنساء يتمنينه لوسامته الممزوجة بمعرفته الخاصة بكثير من الأسرار الروحية وعلم الأبراج والأفلاك وقراءة الكف - ص 4». وهذا يعني أن نطوع ما يمكن أن يكون في صالحنا لكي نحصل على ما نريد، هكذا ذهبت «همرين» إليه ليفك عقدة العلاقة العاطفية بينها وبين صديقتها «سارة». وبحضورها الساذج، استطاع أن يقنعها بما يقوم به من ممارسات نتج عنها اغتصابها، ففُضت بكارتها، «لم أنت خائفة؟ إنك ترتجفين! أنت مع الشيخ حاتم... نحن في حضرة الملائكة وحراستها... همرين أرجو ألا تكوني من اللواتي لا يستطعن الاحتفاظ بسر... لأن كتمانك شرط أساسي لنجاح العمل... راح يحدثها عن عالم الجن وهو يرش قشور البصل والثوم فوق الحجر... هيا اذهبي إلى الحمام لتستحمي بالمياه المطرية... على قراءة التعاويذ أثناء استحمامك... بدأت همرين بخلع ملابسها... بدأ يفقد تركيزه... يجب أن تبقي واقفة وأن تغمضي عينيك، وليكن وجهك نحو الجـدار...، لتدخـل في حالة سيئة بعد محاولة الشيخ نشر شائعة علاقتها بشاب لا يريد الزواج منها، وهو على استعداد لذلك. وحين تكون الثقافة موغلة في متاهات التخلف، فهي شديدة التمسك بذاتها والالتفاف حول نفسها، معتقدة أنها الثقافة الوحيدة التي تحمل الحقيقة، متجاهلة كل الثقافات التي لا تتوافق معها، وما تتصف به من خصائص، لذلك يقع ممثلوها في عمى وجهل متوارث، ولا يكترثون إلى أي تغيير فكري، أو ظهور تيار يسهم في حركة المجتمع ثقافياً واجتماعياً وفكرياً، لهذا تكون العتمة والظلام مسدولاً على هذه الفئة أو هذا المجتمع. وهنا نتساءل هل ونحن في النصف الثاني من العقد الثاني للقرن الواحد والعشرين تبقى مثل هذه المسائل عالقة في ذاكرتنا، ونؤكد عليها في أدبياتنا وأعمالنا الإبداعية والثقافية، أم نحن في أمس الحاجة إلى نقدها بالتحليل والتفسير والتعديل، لما يحقق الأهمية الثقافية والإنسانية لكل موروثنا الحضاري والثقافي؟ أتصور نحن في أمس الحاجة إلى ذلك. فمهما حاول المؤمنون بالخزعبلات والانغلاق على ذواتهم ثقافياً وحضارياً، فلن تجدي كل محاولاتهم هذه، حيث التغيير سيقع على كل مقومات هذه الأنساق المنغلقة، والأنماط التي تشكل سلوكيات الأفراد، ما دام الإيمان بضرورة التغيير والتحديث والتطور والاتصال بالآخر عناصر واقعة في المجتمع، ولا محالة في ذلك. وهناك مشاركة في هذا السياق مع اختلاف التناول والتوظيف، إذ تشير رواية «درب المسحورة»، للروائي العماني محمود الرحبي، إلى أن كثيراً من المعتقدات في الثقافة العمانية والذاكرة الاجتماعية تدور حول حضور الجان والسحر والتلبس، وها هو الغريب يتقدم ليقول: «إنها مسحورة، ليس على وجهها شيء من الموت، ألم تروا ذلك... ارجعوا بالبنت حالاً، وادهنوها بماء الزئبق، لن يقربها الساحر إذا تلمظ ذلك الطعم، سيهرب وسيختفي السحر منها - ص 31». ويزيد على هذا التوظيف الروائي العماني أيضاً سالم الجابري، في روايته «حياة بين زمنين»، ليسقط الضوء على العلاقة بين الإنسان والجن، وكيف يتطارد الجان البشر، ويحاول الاقتراب منهم، بل السعي للزواج إن أمكن ذلك، فــ«بعد أن تأكدت من نوم الجميع، تسللت من غرفتي إلى خارج البيت. كنت أحس بالإثارة لما سأرى من غرائب، وأعد نفسي لما قد أرى من أشكال مرعبة لبعض الجن، مع أنها أخبرتني أنهم سيتشكلون أمامي بأشكال مقبولة لكي لا يخيفونني - ص 8». ويصل الأمر إلى أن الإنسان يتحدث ويؤمن بما يفعله الجان والسحرة، مثلما حصل إلى عائلة الشاب، حيث يقول: «يا أمي، إن أبي ميت، وجثته معي في الكوخ منذ اليوم الذي رماه فيه الشيطان وطار بك، ذلك اليوم حملته وعدت به إلى الكوخ ولفته في وبر الغزلان خوفاً على جثته من أن تخطفها الشياطين وتأكلها - ص 61». لذلك، إذا كانت الرواية العربية لها مساهمات واضحة في إبراز بعض الخصوصيات الثقافية في المجتمع، وبالأخص تلك التي برزت في الفترة الأخيرة، أليس من الأجدى عدم طرحها فقط، وإنما دراستها ومناقشتها بطريقة سردية جمالية متسائلة عن دور المؤسسات الدينية والثقافية والاجتماعية الحكومية والأهلية في كيفية معالجة تلك القضايا والموروث الذي تغلغل وتجذر في الذاكرة الثقافية العربية. - كاتب من البحرين
مشاركة :