يتقدّم جنس أدبي أو فن من الفنون فيتراجع آخر. هذه المعادلة التي حكمت تاريخ الأدب والفن، وما زالت حتى الآن، هي انعكاس لعلاقة الأدب والفن بالواقع وتحولاته الفكرية والجمالية، التي تجد تعبيرها في تحولات مزاج القارئ واهتماماته، لذلك ظلت هذه الأجناس الأدبية والفنون تعيش في صعود وهبوط، لكن ذلك لم يلغ العلاقة التفاعلية بين هذه الأجناس والفنون، بل ساهم في تعميقها مع انفتاحها على بعضها البعض. صعود وهبوط عندما ظهرت الرواية في الغرب كان ظهورها مرتبطا بنشوء مجتمع المدينة، لكنها في مراحل لاحقة لم تعد مرتبطة بوجود مجتمعات مدينية، بعد انتشارها عالميا وتحولها إلى الفن الأكثر إغراء للكاتب. وفي حين كان الشعر والقصة يهيمنان على المشهد الأدبي بدأت الرواية تفرض حضورها وتتقدم على حسابهما، حتى أصبحت هي من يتصدر المشهد الأدبي، كما يتضح ذلك من خلال الجوائز العالمية والعربية التي تحظى بها، أو حجم المبيعات منها مقابل ما يباع من كتب الشعر والقصة القصيرة. لذلك فإن قراءة هذه التحوّلات في المشهد الأدبي لا يمكن فهمها بمعزل عن التحوّلات التي تطرأ على الحياة وقيمها الجمالية والفكرية. لقد تراجع حضور القصة القصيرة في المشهد الأدبي الراهن بعد أن ظلت تواكب في حضورها الشعر في حضوره، حتى تكاد كتابتها تتحوّل إلى مغامرة في ضوء محدودية قرائها. كذلك اختفى أو يكاد المسرح الشعري، وأصبح الحديث عنه حديثا كجزء من الماضي. وفي الوقت الذي كان فيه كتاب المسرح يحظون بالشهرة والإعجاب، وينافسون الشعراء من حيث الأهمية، تراجعت الكتابة للمسرح وخفت بريق كتابها، مع تراجع دور المسرح في الحياة الثقافية عالميا، وظهور وسائل الميديا الحديثة والتواصل الاجتماعي والإنترنت التي شكّلت تهديدا قويا له. بالمقابل كانت هناك علاقة قوية تربط بين بعض الأجناس الأدبية والفنون. في الماضي كانت هذه العلاقة واضحة بين المسرح والشعر كما ظهر في المسرح الشعري، لكن العلاقة الأكثر تعبيرا عن روح الإبداع الوثابة وتحوّلات الوعي الجمالي، تمثّلت في العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي، سواء على مستوى نزعة المغامرة والبحث والتجريب، التي حكمت تاريخهما، أو عبر القيم الجمالية والفكرية التي كانا يتشاركان فيها، كما تجلّى ذلك بصورة كبيرة في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كانت التحوّلات المستمرة في القيم الجمالية والرؤية للأشياء والذات والعالم منذ ظهور الرومنسية في الشعر والاتجاه الفني الانطباعي، هي التعبير الحي عن هذه الروح المتوثبة والخيال الجامح، الذي كان يسم هذه الاتجاهات ويجعل منها أكثر الفنون ثورية وثراء في لغتها التعبيرية. كان تمرد الشعر الرومنسي على الشعر الكلاسيكي منسجما في روحه مع ثورة الروح الانطباعية على الفن الكلاسيكي، لكن هذه الفنون لم تركن إلى منجز، بل ظلت تواصل تحولاتها كما ظهر في الاتجاهات السوريالية والتكعيبية والتعبيرية والرمزية التي كانت تتجاوز فيها باستمرار منجزها ووعيها الجمالي، ما جعلها تتميز بهذه الروح المتجددة، التي وسمت سيرورة تاريخها بالتجاوز والإضافة الدائمة. الرواية المحافظةتقدّمت الرواية بقوة في المشهد الأدبي الحديث حتى استطاعت أن تنتزع من الشعر صدارة المشهد الثقافي. إن هذا التحوّل لا علاقة له بالقيمة الإبداعية والجمالية لكل منهما بقدر ما هو مرتبط بتحولات المزاج الأدبي عند القارئ. لكن المقارنة بين التحولات التي شهدتها الحداثة الشعرية والتحولات التي عرفها تاريخ الرواية تكشف عن ميل الرواية الواضح إلى المحافظة، ما جعل الاتجاه الواقعي يهيمن على منجزها طوال ما يزيد على ثلاثة قرون، في حين أن الاتجاهات الجديدة التي ظهرت في تاريخ الرواية مثل الرواية الجديدة ورواية تيار الوعي لم تستطع أن تحقق انتشارها عالميا، أو أن تكرّس قيمها السردية الجديدة. لذلك يمكن القول إن الرواية كانت هي الأكثر إخلاصا في علاقتها بالواقع وتعبيرا عنه، حتى مع ظهور رواية ما بعد الحداثة، إذ ظل التغيير يأتي من داخل الرواية الواقعية، سواء على مستوى بنية السرد، أو مفاهيمه ووظائفه ودلالاته. إن طبيعة التمرّد التي ميزت الشعر هي التي جعلت الرومنسية تفتح الباب واسعا أمام الاتجاهات الجديدة التي ظلت تطور أدواتها التعبيرية والجمالية، لكن كل هذا لم يكن يحدث بمعزل عن تفاعلها مع الواقع وتمثلها لتحولاته القيمية والفكرية، فالرومنسية التي جاءت تعبيرا عن تمردها على ظهور مجتمع المدينة والعلاقات المادية التي أصبحت تحكم علاقاته، لم تكن السوريالية أقل تمردا وخروجا على سلطة العقل الذي كان يحكم مشروع الحداثة، والنتائج الكارثية للحروب الكونية التي تسببت بها، في حين كانت الرمزية ردا على الواقعية، ومحاولة للتعبير بالرمز عن الوجود أو تحريرا للدال. إن سيرورة هذا التحوّل المستمر في مغامرة قصيدة الحداثة فتحت أمام القصيدة فضاءات رحبة عملت مخيلة الشاعر على توسيع حدودها باستمرار. والحقيقة أن الفن التشكيلي لم يكن سوى الوجه الآخر لهذه الروح الثورية، التي ظلت تواصل تحوّلاتها القيمية والتعبيرية، كما تجلى ذلك في المدارس الفنية الكثيرة، التي كانت في جانب هام منها أيضا تمرّدا على قيم الواقع وعلاقاته، ومحاولة لتكريس قيم جمالية جديدة، تعبر من خلالها عن غربة الإنسان وضياعه في عالم بات محكوما بقيم الاستهلاك وسلطة المال وغياب قيم الروح والجمال.
مشاركة :