في رحلة آلة العود الطويلة منذ آلاف السنين، مازال السوريون يفاخرون بإتقانهم لهذه المهنة، ويناضلون من أجل الحفاظ على صناعة سلطان الآلات الموسيقية وأحنها من الشرق إلى الغرب. بعد الأحداث التي مرت بها سوريا وإجبار العديد من السوريين على مغادرة أراضيهم، لم يبق العود وحيدا، بل هاجر أيضا من دمشق وحلب، وتوجه في مغامرة نزوح مؤقتة إلى دول الجوار من ذلك إسطنبول التركية. الشاب عبدالعزيز محمد جميل حداد وشقيقه عزالدين غادرا حلب إلى تركيا حيث استقرا في إسطنبول، وسافر العود الحلبي معهما مختبئا بين أناملهما، وهناك انطلقا مجددا في مزاولة مهنة صناعة الآلات الموسيقية التي ورثاها عن والدهما، وفتحا سوقا جديدة متسلحين بالشغف والصبر والتفاصيل. وتصنف الآلات الموسيقية في ثلاث فئات أساسية، هي النفخية والوترية والإيقاعية، وتستخدم في صناعتها مواد طبيعية متعددة كالخشب والنباتات وأمعاء الحيوانات والشعر والعظم والقرون، والعود من الآلات الوترية الشرقية المهمة، فهو آلة أساسية في الموسيقى الشرقية والتركية أيضا، وكان لها انتشار واسع منذ زمن العثمانيين. والسوق التركي لا يخلو من صناع الآلات الشرقية، ورغم ذلك تمكن عبدالعزيز وأخوه من خلق فرصة الوصول للمواد الأولية اللازمة، لتحول أناملهما بطريقة فنية مبدعة تلك الأخشاب الصماء إلى آلات تعزف عبر أوتارها نغمات الشوق والحنين والحب. وسبقت شهرة العود الحلبي هجرة هذين الشابين خارج حدود سوريا حتى وصلت إلى كندا، كما انتشر صيت هذه الآلة بين أعلام الموسيقى العربية منذ زمن بعيد فأصروا على اقتنائها من ورشاتها في حلب، أمثال الملحن فريد الأطرش والمطرب صفوان بهلوان والعازف نصير شمة والموسيقار ملحم بركات وغيرهم من كبار الفنانين في العالم العربومدينة حلب قديما وحديثا تتربع على عرش المدن التي تصنع آلة العود الشرقي رغم أن مصر والعراق وحتى سوريا تتفاخر بهذه الصناعة، وذلك لقدم الحلبيين في هذه الصنعة التي احترفها أناس أصحاب ذوق ومعرفة موسيقية عميقة. وفي ورشة بأحد أحياء إسطنبول، يتم تصنيع الأعواد، إلى جانب آلة القانون، فعبدالعزيز مختص في الأعواد، وعزالدين في القانون، يعملان سويا على تلبية الطلبات من السوق التركي والأسواق العربية. عبدالعزيز تحدث عن رحلته إلى تركيا وبدء العمل في تصنيع الآلات الموسيقية يدويا في إسطنبول، قائلا “والدي يصنع آلتي القانون والعود، وعندما كنت صغيرا اكتسبت الخبرة منه وتعلمت المهنة”. ويوضح “عندما كنت في حلب قررت العمل في هذه الصنعة، وكنت أتقنها، وتعلمت تفاصيل نوعية الأخشاب وإمكانية استخدامها، إذ تختلف الأخشاب في سماكتها، وتختلف النوعية من عود إلى آخر بسبب طبيعة الخشب المصنوع منه، وطبيعة الصوت الذي يقوم على إصداره هذا العود، والأهم في ذلك اليد التي صنعت هذه الآلة لأن صناعتها هي نوع من الإحساس الفني”. ويضيف “بعد التطورات في سوريا، جئت إلى تركيا وباشرت العمل مع أخي بإسطنبول بعد أن عرفت مصادر الأخشاب والمواد الأولية المطلوبة”، ويتابع “في البداية كانت الأمور صعبة، ولكنها تيسرت في ما بعد، هناك توافر كبير لكافة أنواع الأخشاب مثل السيسم والورد”، مبينا أن “هناك مواد في تركيا تساعد العود ليكون أفضل من الأوتار الأميركية والألمانية، مثل مفاتيح الأبانوس″. ويتابع “ما جعلني أباشر في العمل، هو أن هناك محلات تركية تأخذ مني ما أصنعه، كما أن السوق العربي دفعني إلى العمل دون خوف من ركود البضاعة، حيث أن العرب يرغبون في العود الشرقي والسوري خاصة مع رغبتهم عزف أغنيات أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفيروز، فيجدون الشرقي مناسبا لذلك”. وتمر صناعة العود بعدة مراحل وفقا لأجزاء العود الثلاثة؛ وهي الظهر الذي يكون عادة مقعرا لتضخيم وعكس الصوت إلى الخارج ويكون مصنوعا من الأخشاب القاسية كالزان والجوز، حيث يتم ثنيها حراريا لتصبح على الشكل المقعر المطلوب، والذي يتم بنسب معينة ومدروسة مسبقا لضمان صوت جيد للآلة ليتم طلاؤها وتلوينها لمنع تأثرها بالأحوال الجوية ولإعطائها شكلا جميلا من خلال الزركشات العربية الأصيلة. والجزء الثاني من العود وهو البطن الذي يكون مسطحا ومغلقا عدا فتحة مدورة في الوسط لإصدار الصوت المرتد من الظهر إلى الخارج، ويكون مصنوعا عادة من أخشاب أقل صلابة كخشب الشوح وخشب السيبروس. أما الجزء الثالث، فيتمثل في تثبيت الزند الذي توضع عليه أصابع العازف ليتحكم بطول وقصر أوتار العود بغية إصدار أصوات مختلفة في نغماتها، ويتضمن الزند جزءا مهما وهو بيت الملاوي الذي يتضمن المفاتيح التي تتحكم بمدى ارتخاء وشدة الوتر المربوط بهذه المفاتيح. ويقول عبدالعزيز “هي صناعة يدوية، يصل الخشب ويتم تشريحه، ثم ثنيه، ليجمع عبر القوالب، ويفك منها، ويتم صقله وتطعيمه، وإضافة الزند وبخه، ووضع الفوجه والفرس والطبشة والمناوي والأوتار، ليتم الدوزان أخيرا”. وتطور صناعة العود في حلب يتبع تطور الفن والموسيقى في مدينة حلب عبر التاريخ التي لم تغب عن الساحة الفنية العربية، إذ أنها قدمت ومازالت تقدم للفن العربي العديد من المطربين والملحنين والعازفين العظماء الذين أثروا سياق وتطور الموسيقى العربية، الأمر الذي ساعد على وجود صناعة آلات موسيقية متقدمة ومشهورة وفي مقدمتها العود. ويقول عبدالعزيز عما يميز العود السوري بصفة عامة والعود الحلبي بصفة خاصة، إنه “يتميز بصوته الشرقي المتميز، وحنية العود، والزند أيضا عياري، أي إذا خرب الدوزان (الضبط) يعود لوضعه، والقياسات صحيحة دقيقة”، مضيفا “هناك إقبال من الأتراك على العود العربي لأنه مختلف عن التركي، العود التركي تكنيك وفيه رخامة، فبعض الأتراك من العازفين والأساتذة جاؤوا لزيارتنا واستمتعنا بالعزف ووجدوا أن الصناعة السورية رائعة”.ويبيّن “العود السوري له صوت شرقي مختلف، وكلما كان العود حنونا يكون أكثر طربا، لذا يتم التصدير إلى دول عربية مثل فلسطين والمغرب والأردن والجزائر والسعودية، وداخل تركيا يوزع في بورصا وأنقرة وغازي عنتاب ومرسين”، متابعا “يزورنا الزبائن العرب، نعزف سوية وندردش معهم ويشترون، وقد دفعني ذلك كله للبدء بهذا العمل”. أما عزالدين، فيقول من ناحيته عن صناعة آلة القانون “كنت في سوريا قبل القدوم إلى تركيا، وفكرة صنع الآلات في تركيا كانت مطروحة، لأن العمل ووسائل الشحن غير متوافرين في سوريا، ولا توجد إمكانية التصدير إلى الدول العربية وأوروبا في ظل الظروف الصعبة الآن”. ويردف قائلا “ولكن هنا البلاد منفتحة على أوروبا والعالم العربي، ووسائل الشحن متوفرة، وبدأنا العمل هنا بالعود والقانون حيث نواصل عملنا”. وعن آلة القانون ومميزاتها، يقول “هناك اختلاف بين آلة القانون العربية والتركية، من ناحية الحجم والماكينة وفي الدوزان وحتى الصوت مختلف بينهما، القانون العربي طربي والقانون التركي فيه قوة أكثر”. ويشير إلى أن المحال التركية والمعاهد فيها طلب، وهي تستهدف السياح والزائرين عامة، الطلاب يحبون العزف على القانون السوري، والعمل هو التصدير بشكل كبير إلى الدول العربية. ويختم بالقول “عرضت عليّ صناعة القانون التركي، ولكنني حاليا مشغول بالقانون السوري، إلا أنني بالمستقبل سأعمل على هذا الأمر”.
مشاركة :