أي مستقبل ينتظر دول الشرق الأوسط؟ كان هذا السؤال ومازال محوريا منذ اندلاع الثورات العربية منذ أربعة أعوام ومازال يتردد مع مستجدات متشابكة تمثلت في تراجع القوى الديمقراطية والثورية في معظم الدول العربية مع إعادة الاعتبار للأدوات العسكرية وخاصة مع تزايد الإرهاب والعنف والاستقطابات السياسية وتراجع الزعامات الكاريزمية ودعم البنى المؤسسية فضلا عن الترتيبات الديمقراطية. في شرق أوسط "لم يكسب أحد"، علينا إذا الإجابة على سؤالين محوريين، الأول هل الثورات العربية هي السبب في هذه الفوضى وهذه الانهيارات؟ أما الثاني فهو يتعلق بمحاولة وضع سيناريوهات لمستقبل المنطقة الملتهبة بطبيعتها. أما الإجابة على السؤال الأول فهي قطعا بالسلب، فالعالم بتاريخ الثورات يعرف أن تطوراتها تأخذ موجات صعود وهبوط متتالية، وأن مقاومة الأنساق القديمة سواء كانت سياسية، تنظيمية أو ثقافية للقوى الثورية التي تبحث عن التغيير وخلق نسق جديد هي سُنة الثورات. بعبارة أخرى ما يحدث الآن يتمتع بالحتمية التاريخية، فالأنظمة التي رفضت التغيير والإصلاح وقبلت بمعادلة الفساد وسياسات الأمر الواقع كان لابد لها يوما ما من السقوط، ولو لم يكن هذا اليوم فى ٢٠١١ لكان حتما فى وقت لاحق. لا فائدة إذا من التندر أو استدعاء الأيام الخوالي، ومن الأفضل إذا النظر إلى المستقبل والإعداد له. ولكن يكون السؤال التالي إذا أي مستقبل؟ *** أي مستقبل هذا الذي ينتظر منطقة انهارت فيها سوريا وانقسم فيها العراق واليمن وتفتت ليبيا وتعاني فيها مصر والسودان ودول الخليج من تحديات جمة أمنيا واقتصاديا وسياسيا؟ أي مستقبل ينتظر دول، يلعب ومازال، النفط فيها المحدد الرئيسي لأسس وقواعد اللعبة السياسية في ظل انفجارات سكانية وتزايد في معدلات البطالة وتراجع في معدلات الصحة وجودة التعليم، بحسب الاحصاءات الدولية؟ في تقديري هناك ثلاث سيناريوهات مرجحة لدول المنطقة، وذلك على النحو التالي: أولا الشرق الأوسط الإسلامي: والمقصود بهذا السيناريو أن قوى الإسلام السياسي ستتمكن من تحقيق حلمها المؤجل بالقيام بثورات إسلامية في دولها، تسقط فيها الملكيات والجمهوريات معا، وتؤسس نسخ متباينة من دول الخلافة على مستوى مركزي تمهيدا لإعلان قيام فيدرالية إسلامية سنية لاستعادة نموذج دولة الخلافة. وفقا لهذا السيناريو فإن قوى الإسلام السياسي والتي تم استبعادها من اللعبة السياسية أو على الأقل تهميشها في معظم الدول العربية ستتمكن من تحقيق اختراقات للنظم القائمة والقيام بانقلابات دموية للانتقام من القوى السياسية التي شيطنتها واستبعدتها وشرعنت دمها. تحقق هذا السيناريو رهين بأربعة شروط، الأول أن تنجح القوى الإسلامية في تحقيق النجاح في دولة ما "نموذج" مثل مصر على سبيل المثال، يتبعها ثورات إسلامية في معظم دول المنطقة المحتذية بها، والثاني أن تنجح الدولة الإسلامية في داعش في مقاومة الضربات العسكرية الموجهة إليها من دول التحالف لتثبت وتنتصر فى الأراضي السورية والعراقية، مهمشة للقوى الشيعية فى هاتين الدولتين وضاغطة على باقى التخوم الشيعية فى الخليج العربي ولبنان. والثالث أن تنجح هذه القوى الإسلامية السنية في معظمها في التنسيق فيما بينها والإبقاء على التعاون وعدم الوقوع فى فخ الصراعات البينية والداخلية. أما الشرط الرابع والأخير فهو أن تتمكن من الحصول على دعم دولي (أمريكي؟) وآخر إقليمي (تركيا؟) حتى تقوم بتثبيت أقدامها فى المنطقة. رغم أن هذا السيناريو لايجب استبعاده تماما من حسابات المحللين والساسة على السواء إلا أن تحققه مرهون بتحديات جمة، فالشروط الأربعة السابقة صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة في ضوء صعوبة تحقيق انتصار للإسلامين في مصر وصعوبة دعم أمريكا لنموذج إسلامي ثوري حقيقي خاصة بعد خبرة إيران وفي ضوء الخوف على أمن إسرائيل. بالإضافة إلى كل ذلك فالخلاف بين القوي الإسلامية على قيادة هذا النموذج الثوري وعلى اختيار الخليفة وعلى معنى تطبيق الشريعة سينتهي بها إلي صراعات كانت وستظل علامة فارقة في تاريخها منذ انتهاء الخلافة الراشدة. لا داعي أن نقول أن هذا السيناريو إن حدث فإنه لن ينتج غالبا أي ديمقراطية أو حرية ولكنه سيدفع المنطقة إلى شلالات دماء أكبر من تلك التى يتم سفكها بالفعل حاليا! ثانيا الشرق الأوسط الديمقراطي: ووفقا لهذا السيناريو، فإنه في ظل استمرار عجز معظم أنظمة المنطقة عن اتباع سياسات إصلاحية ادماجية، وفى ظل التحديات الاقتصادية والأمنية فإن التكتل الواسع للقوى الثورية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار سيتمكن من حشد الناس لثورة ثانية أو ثالثة، تعيد الإطاحة بالأنظمة الحالية لصالح أنظمة أكثر ديمقراطية وتعددية تقوم بإعادة بناء أطر دستورية وقانونية تنتج مؤسسات وسياسات وكوادر مؤمنة بالسيطرة المدنية والمواطنة، فتتحول معظم دول المنطقة إلى نماذج متباينة من الديمقراطيات التمثيلية النيابية أو التوافقية. رغم أن هذا السيناريو مازال يداعب الكثير من شباب المنطقة وخاصة هؤلاء الذين عاشوا أحلام ٢٠١١، إلا أن صعوبة تحقق هذا السيناريو لا تتوقف فقط على تحدي تحقق مثل هذا التوافق فى الصفوف الثورية على اختلاف انتماءتها، ولكنه يتمثل أيضا فى أن الدعم الدولى والإقليمى لمثل هذه الموجة الثانية من الثورات العربية أو الشرق الأوسطية سيكون محدودا فى ظل ارتفاع كلفة التغيرات المستمرة فى قواعد اللعبة. فضلا عن أن غياب البدائل السياسية والاقتصادية لدى القوى الحالمة بالتغيير في المنطقة وضعف احتكاكها بالجماهير وعدم قدرتها بعد على تطوير أطر للحشد والتعبئة بالإضافة إلى أثر عامل البترول السياسي في الإبقاء على الأوضاع المحافظة ودعم القوى التقليدية من شأنه إبعاد هذا السيناريو عن الحسابات، ولو مؤقتا. ثالثا الشرق الأوسط الطائفي: ووفقا لهذا السيناريو فإن الانقسامات والتفتت ستكون النتيجة الطبيعية لكل المؤشرات الحالية في المنطقة. ففي هذا السيناريو ستستمر دول الشرق الأوسط في التفتت بين محورين أحدهما سني تقوده المملكة السعودية وتركيا بدعم من مصر ودول الخليج في مواجهة معسكر شيعي تقوده إيران بمساعدة حلفائها التقليديون في لبنان وسوريا والعراق واليمن بينما يدفع المسيحيون وغير المسلمون عامة إلى هامش المعادلة. في هذا السيناريو من المرجح أن تشهد المنطقة حروبا نظامية وليست مجرد ضربات يتم شنها هنا أو هناك. في هذا السيناريو لن يتمكن الأمريكان من إبرام اتفاق نهائي مع إيران، ربما بعض الهدن هنا أو هناك لكن من المتوقع أن يضغط المحافظون في الداخل الأمريكي بما فيها المتشددون من المعسكر الديمقراطي الذي يحاول مغازلة الداخل قبل الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٦ فضلا عن إسرائيل وكذلك ضغوط السعودية وحلفائها الذين سيسعون بكل قوة لعدم اتمام هذا الاتفاق. يظل هذا السيناريو هو الأكثر حظا في ظل تعقيدات المشهد في الشرق الأوسط وفي ظل التنافس الرباعي الأمريكي الروسي الصيني الأوروبي على جذب الحلفاء في المنطقة. هذا السيناريو سيفيد أربعة أطراف رئيسية، الأول هو القوى الإقليمية المحافظة التقليدية فى الخليج العربي، والثاني هم الفاعلون الإقليميون من غير الدول وخاصة الحركات الإرهابية والمتشددة، والثالث هم جنرالات الجيوش والأمن الداخلي، أما المستفيد الرابع من هذه التناقضات فهي قطعا إسرائيل. *** هل يمكن إذا إيقاف هذا السيناريو أو تقليل تبعاته؟ في الواقع كل الاحتمالات ممكنة ولكن هذا يتطلب حدوث تغيرات جوهرية وغير تقليدية في المشهد. كأن تبادر نظم المنطقة إلى اتخاذ خطوات حقيقة إصلاحية تدفع تدريجيا بالديمقراطية النيابية على الأقل متبوعة بإصلاحات دستورية ومؤسسية، أو أن تتمكن القوى الداعمة للديمقراطية من إحداث تغيرات غير متوقعة ومفاجئة تجبر جميع أطراف المعادلة على التغيير، أو أن تقوم انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية تغير المعادلة الطائفية وتعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة مرة أخرى لتغير تحالفات المنطقة، أو أن تحدث انهيارات مفاجئة في الخليج العربي تحد من تأثيرات النفط السياسية، أو أن تقوم ثورة إيرانية علمانية إصلاحية في المنطقة... كلها احتمالات مفتوحة ولكنها تحتاج إلى قوى غير تقليدية تفكر خارج صندوق السياسة والتاريخ، فهل نجد هذه القوى لتنقذنا من المصير المحتوم؟
مشاركة :