توصلت بي بي سي إلى أدلة على محاولة أجهزة الأمن السودانية تقويض الاحتجاجات الشعبية باعتقال طلبة وتعذيبهم حتى يقروا باعتزامهم القيام بأعمال عنف، ومن ثم نشر مقاطع فيديو باعترافاتهم المزعومة عبر فيسبوك والتلفزيون الرسمي. لكن المكيدة ارتدت على النظام وبمقدور الطلبة الآن أن يرووا ما حدث معهم. مصدر الصورةFacebook / NISS "أنتم أقذار! أنتم عبيد!" انهالت الإهانات العنصرية على جون وأصدقائه فيما كان أفراد أجهزة الأمن يسددون لهم اللكمات ويضربونهم بالعصي ويصعقونهم بالكهرباء. وتحدث فريق تحقيقات بي بي سي عربي إلى عدة مصادر أكدت أن تعذيب جون وزملائه من الطلبة الدارفوريين استمر لساعات في كل مرة. ويعتقد جون أنهم كانوا يتعرضون لاختبار: أيهم سيقر بانتمائه لجماعة متمردة في دارفور وبالتحريض على العنف في السودان؟كيف اتسعت رقعة الاحتجاجات؟ كان السودان قد شهد احتجاجات مناهضة للحكومة بشكلٍ يومي تقريباً منذ منتصف ديسمبر / كانون الثاني. وقابلت الحكومة الاحتجاجات بقمع شديد. وتقول جماعات حقوق الإنسان إن أكثر من ستين شخصاً قُتلوا في هذه الاحتجاجات، فيما جُرح عدد أكبر واُعتقل المئات. لكن القمع لم يوقف المتظاهرين ومطالبهم، وفي الحادي عشر من إبريل / نيسان الجاري أطيح بالرئيس عمر البشير بعد حكمٍ دام ثلاثين عاما.مصدر الصورةAFP/Getty Images جون، الذي غيرنا اسمه في المقال حفاظا على سلامته، لم يشارك في الاحتجاجات عندما اندلعت في ديسمبر / كانون الثاني. لكن هذا لم يحل دون اعتقاله في مداهمة لبيت طلبة في سينار وهي مدينة تقع على نهر النيل الأزرق في جنوب شرق الخرطوم. اعترافات بالقوة عندما بدأت الاحتجاجات بالتصاعد، أشاع جهاز الأمن والمخابرات الوطني (NISS) دعايات لإلقاء اللوم في الاحتجاجات على متمردين من دارفور. وفي 29 ديسمبر / كانون الثاني العام الماضي، عُقد مؤتمر صحفي بالعاصمة الخرطوم. وادعى وزير الإعلام بالحكومة في هذا المؤتمر كشف "خلية تمرد" كانت تثير الاحتجاجات وتخطط لأعمال عنف. وبثت القنوات التلفزيونية الحكومية مزاعم اعتقال قوات الأمن لأعضاء هذه الخلية، كما نشرت مقاطع فيديو من تلك "الاعترافات" عبر صفحات تديرها الحكومة على موقع فيسبوك. وأظهرت هذه المقاطع شباناً أفارقة، تبدو عليهم علامات الخنوع والاستسلام، وهم يعترفون بأنهم كانوا أعضاء في حركة تحرير السودان وهي جماعة مسلحة بدارفور يتزعمها عبد الواحد النور. كما ظهر الطلبة في هذه المقاطع وهم يقرون بمحاولتهم التحريض على العنف وأنهم نقلوا أسلحة للمحتجين. لكن وفقا لجون، الذي يعرف ثلاثة من الشباب الذين ظهروا في الفيديو، ولعدة مصادر أخرى تحدث معها فريق تحقيقات بي بي سي عربي، فإن تلك الاعترافات ملفقة تماما وانتزعت من الطلبة تحت وطأة التعذيب. مصدر الصورةAFPما حقيقة ما حدث؟ قبل نحو أسبوع من المؤامر الصحفي، كان جون يعيش في بيت في سينار تستأجره مجموعة من الطلبة القادمين من دارفور. أما جامعة سينار فكانت قد أُغلقت بسبب الاحتجاجات. وفيما عاد بعض الطلبة إلى ذويهم، آثر البعض استئجار مهجع في المنزل بعد أن أغلقت الجامعة أبوابها. وصف جون ما حدث له في صباح يوم ٢٣ ديسمبر كانون الثاني. "كنا 30 شخصا نتناول الإفطارعندما ظهرت ثلاث شاحنات صغيرة بدون لوحات. اعتقلونا ... وأخذونا إلى مقر أجهزة الاستخبارات الأمنية في ولاية سينار". تعرضوا للتعذيب وفي وقت لاحق نُقلوا إلى مكتب للاستخبارات قرب محطة حافلات شيندي بالخرطوم. إلى جانب مجموعة الطلبة هذه كانت هناك مجموعة أخرى من الطلبة وُضعوا بمعزل عن المجموعة الأولى رغم تشابه ظروف اعتقالهم. كانت هذه المجموعة من طلبة دارفور بجامعتي الخرطوم والزعيم الأزهري. وأفادت عدة مصادر تحدثت لبي بي سي بأن الطلبة اُحتجزوا في ظروف سيئة وخضعوا للتعذيب. أحد الطلبة من جامعة الخرطوم وصف لبي بي سي كيف اتهمهم المحققون بتصنيع قنابل بدائية تُعرف باسم "كوكتيل المولوتوف". وقال الطالب: "كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها المولوتوف". كما ذكر جون أن رئيس الأمن القومي صلاح قوش، الذي استقال في أعقاب الانقلاب، جاء إلى السجن بنفسه ليسأل ما إذا كان الطلبة قد تعرضوا للتعذيب. وبعد مغادرته، تم فرز الطلبة فوُضع أولئك الذين لم يشتكوا من أي سوء معاملة على حدة أما الذين أقروا بتعرضهم للتعذيب فتعرضوا لضرب جديد.مصدر الصورةAFP/Getty وقال جون: "لقد رصدوا من منا بدت عليه علامات الرعب من التعذيب"، وأن أفراد الأمن أخذوا مجموعة من صغار الطلبة. وفي وقت لاحق، قالوا لجون إنهم تعرضوا للصعق بالكهرباء والإيهام بالغرق. بعدها أمروهم بالاعتراف أمام الكاميرا. اعترافات على غرار: "أنا عضو في حركة عبد الواحد النور. خرجت في احتجاجات جامعة الخرطوم. كنت طالباً أعيش في مساكن الطلبة وقد عدت للبيت أحمل حقيبة وسكاكين". إذا كان رجال الأمن يأملون من وراء ذلك إفقاد المحتجين مصداقيتهم فقد ارتدت عليهم استراتيجيتهم بنتيجة عكسية. كيف أخطأت المكيدة هدفها؟ أصدقاء الطلبة الذين ظهروا في مقاطع الفيديو تعرفوا عليهم ورفضوا اعترافاتهم من خلال الإنترنت وفي مقابلات مع بي بي سي. لقد شهدوا بأن أصدقاءهم كانوا طلبة عاديين وشبانا مسالمين ولا تربطهم علاقة بأي جماعات مسلحة. لا إن بعضهم كانوا أعضاء في جماعات تناهض الجماعات المسلحة في دارفور. وقال عدد من المتحدثين لبي بي سي بينهم ممثل لمنظمة هيومان رايتس ووتش الحقوقية إن أصولهم العرقية كأفارقة سود من دارفور استخدمت ضدهم لإعطاء انطباع بأنهم جزء من حركة مسلحة تحض على العنف. أحد أصدقاء الطلبة قال لبي بي سي: "من خلال منشورات على فيسبوك أمكننا أن نفضح اتهامات النظام الكاذبة ونكشف حقيقة ما مر به هؤلاء الشبان منذ اعتقالهم". وقد انتشرت بكثافة تعليقات فيسبوك التي تشكك في صحة الاعترافات. كما أذكت الحادثة فتيل الاحتجاجات إذ وجه المتظاهرون شعاراتهم التي كانوا يهتفون بها للرئيس عمر البشير نفسه قائلين: "يا هذا، انك عنصري مغرور! كلنا دارفور". أما مدونات وسائل التواصل الاجتماعي التي حملت هاشتاغ #كلنا-دارفور فجرت مشاركتها آلاف المرات. ولم ينس المحتجون هذه الواقعة. فبعد انقلاب 11 ابريل نيسان، التقطت الكاميرات صوراً للمحتجين المنتصرين وهم يهتفون: "دارفور بلدنا. ثورة! ثورة!". الرئيس عمر البشير مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية على خلفية تهم ذات صلة بجرائم حروب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في دارفور. أما المجلس العسكري الانتقالي الذي يسيطر على البلاد حالياً فيهيمن عليه أشخاص متورطون إلى حد بعيد في هذه الجرائم. وعلى الرغم من الابتهاج الذي أعقب الإطاحة بالبشير، تقول جيهان هنري المدير المساعد لدائرة أفريقيا في منظمة هيومان رايتس ووتش إن المحتجين على وعي تام بأن أعضاء المجلس الانتقالي "ملطخة أيديهم بالدماء وأن تعيينهم يعد إهانة للناس في مناطق الصراع (وبينها دارفور) حيث وقعت الانتهاكات". مصدر الصورةAFPما الذي حدث لجون؟ وعلى الرغم من تعرضه للتعذيب، لم يمنح جون اعترافات كاذبة للسلطات وأفرج عنه دون توجيه تهم إليه بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله. ويقول جون: "عندما أفرجوا عني جاء الضباط وطلبوا أن أصفح عنهم وقالوا إنهم "كانوا فقط يفعلون ما يؤمرون". قلت لهم: "أنا بريء. لقد داهمتهم منزلي واعتقلتوني وعذبتوني بلا سبب. لن أسامح أيّاً منكم". أفرج أيضاً عن جميع طلبة سينار الذين اُعتقلوا مع جون دون توجيه اتهامات لهم، ما يشير إلى أن أجهزة الأمن لم تكن لديها أدلة كافية تدينهم. وقد طالبت نقابة المحامين في دارفور بإطلاق سراح الدارفوريين الذين لا يزالون معتقلين لأسباب سياسية. وقالت جيهان هنري من منظمة هيومان رايتس ووتش: "لقد وثقت حالات اعتقال لسنوات عدة في السودان، والطلبة الدارفوريون دائما ما يتعرضون لأسوأ ضرب وإهانة". وأضافت: "هناك عنصرية متفشية في قوات الأمن في السودان وبين عناصر الأمن التي تنفذ الاعتقالات وتعرض الطلاب لضرب مبرح". ورغم أن جون لم يشارك في الاحتجاجات وقا اعتقاله، فقد أصبح مشاركا فاعلا فيها منذ ذلك الوقت، وزاده التعذيب الذي تعرض له إصرارا على الإطاحة بالنظام. قد يكون عمر البشير ورئيس الأمن في حكومته قد سقطا إلا أن القادة العسكريين في نظامه لا يزالون يمسكون بزمام الأمور في البلاد، وتعهد المحتجون بمواصلة الاعتصامات لحين تسليم الحكم لحكومة مدنية. أما السفارة السودانية في لندن فلم تستجب لمطلبنا بالتعليق.كيف ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي المحتجين؟ على مر التاريخ، خضع الاعلام السوداني لرقابة مُحكمة فالصحف تمر عبر الرقيب بانتظام وأجهزة البث الرسمي أخفقت في تغطية الاحتجاجات التي كانت تجتاح البلاد حتى حدث الانقلاب. أما وسائل التواصل الاجتماعي فأصبحت منصة هامة لتنظيم الاحتجاجات. وقد تغلب النشطاء على محاولات فرض رقابة على الإنترنت من خلال استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة VPN وغيرها من الوسائل. مقاطع فيديو الاعترافات الكاذبة أظهرت أن النظام السوداني كان يحاول أيضاً استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لصالحه إلا أن أفرادا عاديين من الشعب السوداني أفسدوا عليه خططه. وقبل الإطاحة به قال عمر البشير إن: "تغيير الحكومة لا يكون عبر واتس أب وفيسبوك بل من خلال الانتخابات". لقد أثبت الانقلاب أنه على خطأ.
مشاركة :