الثقافة بحر تسبح في أعماقه كائنات تتكون منها أنماط حياتية، وتتفتق عنها أشكال وصور تعطي الانطباع عن التكوينات الأساسية لمعطيات الحياة، وتتحدد معالم الصورة بنتاج الأدباء من كتاب وشعراء، وهم الذين يكونون نواة خصبة للآليات المنتجة، فالفنون بكل تفرعاتها تشكل حجراً في زاوية الثقافة وهي مجتمعة تبني الرؤية الصادقة عن أي مجتمع يمثلونه. فبرصد منجزات مثقفينا في زمن معين، وتسليط الضوء عليها، نستطيع الحكم على تلك الفترة التي يتمحورون حولها ونرى هل تناغمت معطياتهم حول الحدث، وهل تنظيراتهم المستقبلية تم تأطيرها في أطروحاتهم التي لم تمس صلب الحدث، وإن تجرأت حامت حول الحمى دون الغوص في أعماقه. وعندما أتحدث عن المثقفين فأعني في عالمنا العربي وفي مجتمعنا الخليجي خاصة. وكلما أبحرت في إنجازاتهم تظهر لك الصورة مشرقة بكمها ولكن ما زال شاعرنا يتغزل بليلاه وأديبنا منغمساً في ضبابياته الأدبية، يرسم بتنظيراته عبر لوحاته السريالية والتي ابتعد بها عما يجري حوله، وكأنه في فصيل آخر يغرد خارج السرب، لا يعنيه الحدث وما يجري حوله؛ لكثرة محاذيرهم الموضوعه وتحفظاتهم التي وضعوا لها سياجا حديديا لا يمكن تجاوزه. حتى باتت منابرنا الإعلامية من إذاعة، وتلفزيون، وصحافة، ومسرح، وبقية وسائلنا الفنية، تشتكي غربتها وأصبحت تجتر ماضيها في تكرار ورتابة وهي مشتاقة إلى المعايشة لزمانها، وتطالب بالتجديد والعصرنة، وأن تكون رجع الصدى للأحداث والمحرك الأساسي لديناميكية الحياة. فهي التي دائما تمثل الأدوار الرئيسية؛ لتحدد هوية الزمن، فكل حقبة كان له حضور تؤطره وتلونه وتعطيه نكهة متميزة عن غيره. كانت فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي زاخرة بعطاءات شعرائنا وأدبائنا في الساحة العربية، فتكاتفوا فأنتجوا لنا مجموعة أحاسيس لأحداث عاشها المجتمع فأحسنوا تصويرها، ولم تتخل عنهم بقية الفنون من رسم وغناء، فربطوا مجتمعهم بقضاياهم، وهذه رسالة الأدب والفن. ويبدو أننا بعدها استطعمنا عبارة «آن للفارس أن يترجل» فخلدنا للراحة، حتى دب النعاس إلى جفوننا، وغطت عيوننا الغشاوة، فأصبحنا لا نرى ما يجري حولنا من عملية استقطاب واستلاب واستئثار وطمس لمعالم الصورة المشرقة للأمة العربية خاصة والإسلامية عامة. فأصبح للجريمة مروجون، وللإرهاب مسوقون، وللفساد سماسرة، وأصبحنا نردد عبارة شر البلية ما يضحك. بماذا نفسر جسامة الأحداث التي نمر بها من فرقة وتناحر وحروب وويلات الاستنزاف الاقتصادي، ونحن ما زلنا مصرين على تصوير الأغاني الهابطة بالفيديو كليب، والتي يصاحبها التمايل وننتج أفلام الجريمة والمخدرات. وتمتلئ الصحف بالإعلان لها، وإن حادت بعض صفحاتها فستكون للرياضة والماكياج وشؤون المطبخ. فهل ننتظر مصاباً أكبر من الأزمات الحالية في عالمنا الإسلامي والاستهداف المعلن ضد الإسلام والهجمة الشرسة على المسلمين؛ كي يتفاعل فرسان الثقافة بالحدث. فأين كتاب المسرح والسينما والصحافة والتلفزىون والإذاعة من هذه القضية وتداعياتها؟ أم اكتفوا بالتسطيح والتهميش الذي نراه هذه الأيام؟. مع اعتذاري للمحاولات الهزيلة التي يغلب عليها الانفعال المرتجل. وأين أدباؤنا من المستجدات وأثارها فكل زاوية تحتاج إلى مجلدات من البحوث والدراسات يقوم بها الاختصاصيون كل في مجاله. واعترف بوجود بعض المحاولات الجادة، ولكنها مبعثرة على المدى الزمني تتوارى مع الكم الهائل لذلك الغث. باحث وكاتب
مشاركة :