موسكو/دمشق - رجّح التدخل الروسي في الحرب السورية دعما للنظام السوري في سبتمبر/ايلول 2015، كفة الرئيس بشار الأسد وأنقذه من سقوط كان مؤكدا مع اقتراب فصائل المعارضة السورية حينها من معاقل الأسد. لكن لا يمكن أن تلقي روسيا بكل ثقلها في حرب مكلفة دخلت عامها الثامن مجانا، وفيما شكلت سوريا أيضا ساحة اختبار للأسلحة الروسية الحديثة، كان لابد من ثمن تدفعه دمشق مقابل هذا الدعم، فجاءت اتفاقيتي ميناء طرطوس وقاعدة حميميم الجوية كثمرة للجهد الروسي ضمن خطط التمدد في المنطقة وإعادة التوازن الإقليمي والدولي. وروجت دمشق للاتفاقية التي وقعتها مع موسكو في 2017 لاستغلال ميناء طرطوس لمدة 49 سنة تحت عناوين فضفاضة بوصفها بداية لانفراج الأزمة الاقتصادية وفك الحصار وانتهاء أزمة الوقود، وهي في الأصل اتفاقية عسكرية تؤبد الوجود الروسي في سوريا من بوابة التعاون التجاري وتشكل أيضا مكافأة لموسكو على دعمها العسكري الذي أتاح للنظام السوري الصمود طيلة ثماني سنوات من الحرب الأهلية التي كادت تسقط الرئيس بشار الأسد. وكان نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، أعلن بعد اجتماعه مع الأسد أن ميناء طرطوس سيتم تأجيره إلى روسيا لمدة 49 عاما وسيتم تشغيله أمام العمليات التجارية الروسية. وأحيط هذا الإعلان بهالة إعلامية وتصدر المشهد الإعلامي والسياسي وكان يمكن أن تكون الاتفاقية أمرا طبيعيا وممارسة دولية متعارف عليها تجاريا بحساب مدى استفادة طرفي الاتفاق، إلا أن وضع اتفاقية طرطوس مختلفة تماما عما يراد إظهاره سواء من الجانب الروسي أو الجانب السوري أو كليهما. لكن هذه الاتفاقية مختلفة الشكل والمضمون وهي بالأساس عسكرية حتى وان كانت عناوينها تجارية. وعمد طرفا الاتفاق إلى إدخال هذه الاتفاقية في متاهة التفاصيل التجارية التي تخفي في طياتها المضامين العسكرية. والاسم الرسمي للاتفاقية هو"توسيع أراضي المركز اللوجستي للبحرية التابعة للاتحاد الروسي في ميناء طرطوس وزيارات السفن العسكرية للاتحاد الروسي إلى البحر الإقليمي والمياه الداخلية و موانئ الجمهورية العربية السورية" هذه الاتفاقية اعتمدها مجلس الدوما في العام 2017 وقام مجلس الإتحاد بالموافقة عليها في الفترة ذاتها لتصبح قانونا إتحاديا رسميا لتدخل حيز التنفيذ الرسمي في 2018 وتم اعتمادها بناء على معاهدة الصداقة والتعاون بين اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية والجمهورية العربية السورية في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1980. والاتفاق المبرم بين حكومة اتحاد الجمهوريات السوفياتية والحكومة السورية بشأن دخول السفن الحربية السوفياتية وسفن الإمداد إلى المياه الإقليمية والموانئ السورية وإنشاء نقطة لوجستية سوفياتية في منطقة ميناء طرطوس الموقعة في العام 1983. ويشير نص الاتفاقية إلى المنشآت العسكرية الروسية بمصطلح "مرافق الدعم اللوجستي" بدلا من قواعد العسكرية وهي صياغة مطابق للغة المستخدمة في العهد السوفياتي، لينقلها الصحفيون والإعلاميون بنفس الصيغة. والواضح أنه سوف يبدأ تشغيل ميناء طرطوس أمام العمليات التجارية الروسية للتغطية على الطبيعة العسكرية التامة للمنشأة.وتحيل قراءة للمواد التي تضمنتها اتفاقية تأجير روسيا لميناء طرطوس إلى أنها تقفز على مبادئ الندية وسيادة الأراضي السورية، حيث تنص المادة 25 على مدة الاستغلال وهي 49 سنة قابلة للتجديد تلقائيا لـ25 سنة أخرى ما لم يطلب أحد الأطراف إنهاءها عبر كتاب نوايا تنقله القنوات الدبلوماسية، فيما تنص المادة الثانية على أنّ يتسلّم الطرف الروسي مجانا طوال مدة هذه الاتفاقية الأراضي وقطع المناطق المائية المشار إليها في المخطط وفقا للملاحق السرية ذات الصلة وتشمل الاتفاقية إضافة إلى مسائل تتعلق بالممتلكات المنقولة وغير المنقولة وتشغيل مراكز الخدمات اللوجستية (القواعد العسكرية)، أراضي المنطقة الساحلية ومنطقة المياه في ميناء طرطوس والمنطقة الأمامية (منطقة وقوف المنشآت العائمة) وهي تشمل سطح الأرض كما تشمل سطح البحر وقاع البحر. ولا يمكن وفقا لمواد الاتفاقية للجانب السوري إقامة أو بناء أي منشأة مجاورة لطرطوس إلا باتفاق مع الطرف الروسي وبموافقته. وتشير الاتفاقية أيضا إلى أن العدد الأقصى المسموح بتواجده في وقت واحد للسفن الحربية الروسية هو 11 سفينة بما فيها سفن بمحركات نووية. ويمكن اذا احتاج الطرف الروسي إلى عقارات إضافية للاستخدام المؤقت أن يحصل عليها مجانا من الجانب السوري. كما نصت الاتفاقية على أن جميع العقارات التي بناها الطرف الروسي على الأرض السورية هي ملك له. كما يحق لمواطني الاتحاد الروسي من موظفي وأفراد وموظفين وأفراد الطاقم والمقاولين وأسرهم العبور بحرية حدود سوريا من دون أن يخضع هؤلاء أو من يصلون إلى سوريا على متن السفن الحربية الروسية للتفتيش من قبل سلطات الحدود أو الجمارك السورية. وثمة مواد أخرى تشير إلى أنه لا سلطة لدمشق على كل ما يتعلق بالمنشأة الروسية، حيث تحدثت المادة التاسعة من الاتفاقية عن الحصانات والامتيازات ولا يحق للسلطات السورية الدخول للمنشآت الروسية بدون موافقة قائد المنشأة. وتمارس روسيا ولايتها الكاملة حسب الاتفاقية على كامل مرافق منشآتها وأفرادها وأطقمها وأسرهم. وتنص المادة العاشرة على أنّ توفير الحماية خارج حدود المنشأت الروسية يقع على عاتق القوات السورية. كما يحق للموظفين وأفراد الطاقم حمل الأسلحة واستخدامها وفقا للوائح الموضوعة بموجب قوانين الاتحاد الروسي. ويحق حمل واستخدام الأسلحة من قبل أفراد الجانب الروسي، خارج مرافق المنشأت الروسية في حالة المهام القتالية أو لتوفير الأمن أو تحت ظروف أخرى مختلفة. وتنص المادة الثانية عشر على أنّه لا يحق لدمشق أن تطالب بأي استحقاقات ضد الاتحاد الروسي أو منشأته أو موظفيه أو أفراده أو أعضاء أطقمه أو بأنشطة المنشأت الروسية. وتنص المادة الثالثة عشر على أنّ يُعفى أفراد وأطقم المنشآت الروسية وعائلاتهم من كافة الرسوم والضرائب من قبل دمشق. وتظهر قراءة لمجمل مواد الاتفاقية أنها تجرد دمشق من كل سيادة بما يجعلها أشبه بواحدة من الجمهوريات السوفييتية السابقة فلا سلطة للجانب السوري على المنشأة الروسية ولا على تصرفات أفرادها وأطقمها داخل أو خارج المنشأة. وتتضمن الاتفاقية امتيازات كبيرة للجانب الروسي فيما تبدو استفادة دمشق ضئيلة بما يؤكد أن الاتفاقية التي منحت روسيا سلطة كاملة على منشآتها في طرطوس مكافأة من النظام السوري لموسكو على دعمه السخي الذي أنقذ النظام من السقوط. ويتولى الجانب الروسي القيام بمهام عسكرية تشمل المساعدة في تنظيم وتنفيذ آليات دفاعية مضادة للتجسس تحت الماء بالمياه القريبة من ميناء طرطوس والمساعدة في تنظيم وتنفيذ عمليات البحث و الإنقاذ في المياه الإقليمية السورية وتنفيذ مهام الدفاع الجوي عن ميناء طرطوس. وهناك اتفاقية لا تقل سوء عن هذه الاتفاقية تتعلق بقاعدة حميميم تحت مسمى الاتفاق بين الاتحاد الروسي والجمهورية العربية السورية بشأن نشر مجموعة الطيران التابعة للقوات المسلحة الروسية على الأراضي السورية وصادق عليها مجلس الدوما في يوليو/تموز في العام 2017 ووافق عليها مجلس الإتحاد في نفس الشهر لتصبح قانونا اتحاديا في نفس العام.
مشاركة :