تعدّ القارة الأفريقية من أكثر الأماكن المنتجة للإرهاب في العالم، حيث يلعب الفقر في المنطقة ذات الثروات الهائلة الدور الرئيسي في تكاثر التطرّف، إضافة إلى ضعف الحكومات المركزية وعدم قدرتها على بسط الأمن في جغرافيا مترامية الأطراف ومتعددة العرقيات والإثنيات والولاءات. ويعتبر نواه سميث، أستاذ المالية في جامعة ستوني بروك الأميركية، أن تحويل أفريقيا إلى قارة صناعية من بين أهم الأشياء التي تحدث في العالم اليوم، فهذه القارة الواسعة التي تضم أكثر من 1.2 مليار نسمة، تعاني تزايد الصراعات بين البشر الذين مازالوا يعيشون في حالة فقر شديد. وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإنه بحلول 2030 سيكون كل فقراء العالم تقريبا في دول جنوب الصحراء الأفريقية، وذلك نتيجة النمو السريع للسكان، وتخلّف القارة في مجال التصنيع اللازم لتوفير فرص العمل التي تضمن للسكان حياة كريمة. ويقول سيمث إن غياب الحكومات القوية المستقرة، نتيجة سنوات الاستعمار، أدى إلى غياب التعليم الجيد والبنية التحتية المناسبة والنظام القضائي المستقلّ وغير ذلك من الخدمات العامة التي تساعد في إعداد الدول للانتقال من الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على التصنيع. ولم تتمكّن المساعدات الغربية ولا جهود المؤسسات التنموية الدولية من سدّ الفجوة التي تعاني منها دول أفريقيا في هذه المجالات. في المقابل، أصبحت دول شرق آسيا وجنوب شرق آسيا المركز الصناعي للعالم قبل أفريقيا. لكن التأخير لا يعني استحالة لحاق القارة السمراء بركب التصنيع. فارتفاع تكاليف العمالة في الصين ومخاطر فرض رسوم أميركية على السلع الصينية، يمكن أن يدفع الشركات الصناعية إلى تنويع شبكات توريدها. وتفكر بعض الشركات في فيتنام وبنغلاديش كبديل للصين، حيث يصعد نجم الدولتين في العالم النامي. لكن هاتين الدولتين أصغر من أن يحلاّ محلّ الصين، وهو ما يعني أنه إذا أرادت هذه الشركات في خفض نفقاتها، فعليها التحوّل نحو أفريقيا. الصين تعيد تشكيل القارةفي كتابها الصادر تحت عنوان “مصنع العالم القادم: كيف تعيد الاستثمارات الصينية تشكيل أفريقيا” ترصد إيريني سوان صن، الباحثة في مؤسسة ماكينزي أند كو للاستشارات، موجة الاستثمارات الخاصة الصينية التي تتدفق على قارة أفريقيا. وتشير صن، التي كانت تعمل في مجال المساعدات التنموية، إلى أن الإعلام الدولي، لا يركّز على هذه الاستثمارات في أغلب الأحيان، حيث يتجه التركيز على المشروعات والقروض العملاقة التي تدعمها الحكومة الصينية في مجال البنية التحتية بدول أفريقيا. ولكن ما تتحدث عنه الباحثة في كتابها هو شيء آخر مختلف يتعلّق باتجاه رجال الأعمال الصينيين نحو أفريقيا لإقامة مصانع مملوكة للقطاع الخاص فيها. وفي عام 2017، قدّر فريق البحث الذي قادته صن عدد المصانع الصينية الخاصة في أفريقيا بحوالي 10 آلاف مصنع، ومن المؤكد أن هذا الرقم ارتفع الآن، حيث تحظى نيجيريا وزامبيا وتنزانيا وإثيوبيا على الجزء الأكبر من هذه الاستثمارات الصينية، ولكنْ هناك تباين بالنسبة للدول الأخرى. ورغم أن إجمالي الاستثمارات الصينية في أفريقيا ما زال الأقل مقارنة بمناطق أخرى، فإنه ينمو بسرعة. وتعتبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتصنيع بشكل عام، هو أحد أسباب ارتفاع معدل النموّ في أفريقيا. لكن الصورة التي ترسمها صن للرأسمالية الصينية في أفريقيا ليست جيدة دائما، حيث عرضت الباحثة الاقتصادية قصصا للفساد، والتلوث، وساعات العمل الطويلة، واستغلال العمال المحليين في أفريقيا، مشيرة إلى أن كل هذه العيوب تظل ظاهرة عالمية في أي دولة أو منطقة في المرحلة الأولى من التحول الاقتصادي نحو التصنيع. وتضيف أنه رغم هذه المشكلات يظل التحول نحو التصنيع الطريق الوحيد لخروج أفريقيا من دائرة الفقر. ويقول نواه سميث إن برامج التحرير الاقتصادي والحد من القيود الذي قدمته الدول الغربية في تسعينات القرن العشرين تحت عنوان “اتفاق واشنطن” فشل في تحقيق النتائج المرجوّة. وقد نجحت المساعدات التنموية التي قدّمتها الدول الغنية للدول الأفريقية الفقيرة في تقديم غير حقيقي وأحيانا بعض “الشر” لأفريقيا، لكنها لم تكن كافية لتغيير الأوضاع الاقتصادية الأساسية للقارة. ومع استثناءات قليلة، مثل بتسوانا، فإن الموارد الطبيعية في دول أفريقيا تحوّلت إلى نقمة وليست نعمة. تكلفة أقلالحقيقة أن الشيء الوحيد الذي يبدو قادرا على تحويل الدول الفقيرة إلى دول غنية هو ما يسمى بنظرية “الإوز الطائر” الاقتصادية اليابانية التي ذاع صيتها في ثمانينات القرن العشرين كبديل للنظريات الاقتصادية الغربية، والتي ترى أن تحوّل أيّ منطقة من العالم نحو التصنيع تتم في شكل موجات على طريقة سرب الإوز الطائر؛ حيث توجد دولة في المقدمة تسبق الآخرين لتأتي الدول اللاحقة المجاورة وتستقطب الصناعات الأقل تقدّما التي تخلت عنها دولة المقدمة، ثم تتطور الأوضاع في الدول اللاحقة لتدخل عالم الصناعات المتقدّمة. وبحسب هذه النظرية فإن الشركات تبحث عن الدول الأقلّ تكلفة والأكثر استقرارا من الناحية السياسية لكي تتحول إليها. والآن فإن الإوز الطائر يتجه نحو أفريقيا. وما يحدث في القارة السمراء ليس صورة من الاستعمار الجديد الذي يخشاه البعض، حيث وجدت صن أن المصانع الصينية في أفريقيا تعتمد بصورة كبيرة على العمّال الأفارقة المحليين بدلا من استيراد العمالة من الصين. كما أن هذه المصانع لا تعتمد على التكنولوجيا الآلية التي تجعل من الصناعات كثيفة العمالة “موضة قديمة”. بمعنى آخر، فإن هناك مؤشرا واضحا على أن العملية التي أخرجت أوروبا وآسيا من الفقر في عقود أو قرون سابقة، بدأت الآن في أفريقيا. السؤال الذي يفرض نفسه على الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى هو كيف يمكنها المساعدة في تحوّل أفريقيا نحو التصنيع. فأفريقيا الصناعية هي الأفضل لمصلحة الولايات المتحدة. فقبل كل شيء، فإن تكاليف الإنتاج في الصين تزداد، لذلك سيكون بناء المصانع في أفريقيا ضرورة من أجل عدم ارتفاع أسعار الملابس والإلكترونيات وغيرها من السلع التي يستوردها الأميركيون من الخارج. أما بالنسبة لمن يقولون إن إقامة المصانع في أفريقيا يعني نقل الوظائف من الولايات المتحدة إليها، فالواقع يقول إنه عند إقامة هذه المصانع في الولايات المتحدة فستكون آلية في أغلب الأحوال، وبالتالي لن تحتاج أيضا إلى عمالة كثيرة. الدول الأفريقية المتخلفة مع انفجار سكاني وارتفاع معدلات القفر، ستتحول إلى كارثة مناخية وساحة حروب لا تنتهي. هذا السيناريو سيخلق المزيد من التوترات. ويتعيّن على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغنية أن تشجع استيراد السلع المصنوعة في أفريقيا لقطع الطريق على هذا المستقبل المظلم، ومنح الأمل والأمن لأشد الناس احتياجا في العالم. وبما أن أفريقيا هي الجبهة الأهم للحرب العالمية ضد الفقر، فإن تحويل القارة إلى الصناعة سيكمل عملية التحوّل الكبرى التي بدأت في بريطانيا منذ أكثر من قرنين من الفقر إلى الأمن الحقيقي. وبتوفر مناطق شاسعة خارجة عن سيطرة النظم المركزية لأسباب إثنية أو أيديولوجية وفشل محاولات إدماج الأقليات العرقية المهمّشة لوقت طويل، تبقى التنمية في هذه المناطق، وتوفير الحد الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، من أهم مقوّمات القضاء على التشدد وتجفيف منابعه، التي تزداد إغراء كلما تنامت الأزمات وتفاقم الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي.
مشاركة :