شهدت أسواق الصرف في الفترة الأخيرة تغيرات سريعة، خصوصاً في ضوء تراجع اليورو إلى مستويات متدنية قياسية أمام الدولار، وصولاً إلى أدنى مستوى في 12 سنة عند 1.059، والواقع أن هذا التراجع يأتي من عاملين أساسيين: الأول، يتلخص في عناصر تدفع باليورو إلى مزيد من الضعف. والثاني يتمثّل في اجتماع عوامل قوة يتمتع بها الدولار، وتتعزز مع المؤشرات الإيجابية الصادرة عن الاقتصاد الأميركي. لجهة ضعف اليورو، يمكن التوقف طويلاً عند إطلاق المصرف المركزي الأوروبي برنامج الإنعاش النقدي الإثنين الماضي الذي دفع عائدات السندات الأوروبية إلى الهبوط، وأضعف العملة الموحدة بقوة. من هنا، فإن الاعتقاد السائد في الأوساط المالية الأوروبية يشير إلى أن اليورو يمكن أن يواصل التراجع ليبلغ مستوى التعادل مع الدولار بحلول نهاية العام، وربما يستمر في التراجع إلى 90 سنتاً بحلول الربع الأول من 2016، وهذا لا ينفي احتمال انهيار على مستوى أكبر إذا ما استمرت معاناة منطقة اليورو. ووفق برنامج الإنعاش النقدي الذي أطلقه «المركزي» الأوروبي يعتزم المصرف والمصارف المركزية الوطنية لدول منطقة اليورو، شراء 60 بليون يورو شهرياً من السندات، معظمها حكومي، حتى أيلول (سبتمبر) 2016. وشهدت الأسواق تراجع عائدات السندات في جميع دول منطقة اليورو تقريباً إلى مستويات قياسية منخفضة مباشرة بعد بدء البرنامج. وسجلت عائدات السندات الألمانية والإيطالية والإسبانية والإرلندية والنمسوية والهولندية والفنلندية مستويات قياسية منخفضة. وحدها أوراق الدين اليونانية كانت الاستثناء مع ارتفاع عائداتها في ظل بقاء علاقات أثينا متوترة مع دائنيها. يُذكر أن «دويتشه بنك» كان قاد الطريق العام الماضي أمام التوقعات لانخفاض قيمة اليورو، إذ توقع حينذاك خروجاً ضخماً للاستثمارات من أوروبا في العامين المقبلين. في هذا السياق يجدر التوقف عند رأي محللين أوروبيين يعتقدون أن عصر «تخمة اليورو» يسير صوب النهاية بخطى أسرع من التوقعات السابقة. ويشير هؤلاء إلى أن تدفقات الأموال من أوروبا كانت أسرع من توقعاتهم المبدئية على مدى الأشهر الستة الماضية، بالتالي فهم يتوقعون الآن تراجعاً متواصلاً لليورو ليصل إلى مستوى دولار واحد بحلول نهاية العام ودورة هبوط جديدة ستصل به إلى 85 سنتاً بحلول 2017. وأظهرت استطلاعات أوروبية حديثة للرأي أن غالبية المصارف تتوقع بقاء قيمة اليورو منخفضة عند نحو 1.08 دولار على مدى الشهور الـ12 المقبلة. لكن موجة جديدة لشراء العملة الأميركية منذ الخميس الماضي، دفعت اليورو إلى الانخفاض إلى مستوى 1.059 دولار. أما لجهة قوة الدولار، فلعل العامل الأبرز هو ترقُّب رفع مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي معدلات الفائدة للمرة الأولى في السنين العشر الأخيرة، ولعل إعادة ضبط توقيت رفع الفائدة منذ 2006، كان الدافع الأساسي الذي قاد العملة الأميركية إلى مستويات قياسية، خصوصاً أمام اليورو. وفي حين تصب توقعات توقيت رفع مجلس الاحتياط الفيديرالي أسعار الفائدة في خانة الربع الرابع من السنة، إلا أن ما تشهده الأسواق في هذه الفترة ربما يكون من باب «التصحيح»، بسبب توقعات أخرى تشير إلى أن الخطوة المرتقبة قد لا تتأخر كثيراً وربما تأتي في حزيران (يونيو) المقبل، وهو ما تشير إليه استطلاعات كثيرة للرأي التي أجريت أخيراً بين خبراء «وول ستريت» الذين يعتقدون أن حزيران ربما سيكون الموعد المناسب لمثل هذه الخطوة. وتلمس الأوساط المالية الأميركية المتابعة إرادة قوية لدى مجلس الاحتياط الفيديرالي في بدء عملية رفع أسعار الفائدة والابتعاد عن مستويات الصفر في المئة في أقرب وقت ممكن، ما أدى إلى سحب كميات سيولة من الأسواق الناشئة كما هي الحال في المكسيك. ومن بين المؤشرات الاقتصادية الإيجابية أيضاً، أن نمو الاقتصاد الأميركي ساهم في دعم سوق العمل وتوفير 259 ألف فرصة عمل خلال شباط (فبراير) الماضي، ما خفض نسبة العاطلين من العمل إلى 5.5 في المئة من القوى العاملة وفق إحصاءات حديثة سجلت أدنى مستوى للبطالة منذ سبع سنوات. وكان الاقتصاد الأميركي أوجد 3.1 مليون وظيفة خلال عام 2014، وهو رقم لم يُسجل منذ 15 سنة، وتجاوز عدد الوظائف الجديدة 200 ألف شهرياً خلال الشهور الـ12 الماضية، كما ارتفع مستوى الراتب الشهرى في القطاع الخاص اثنين في المئة خلال شباط الماضي.
مشاركة :