أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم المسلمين بتقوى الله عز وجل. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: الإنسان الموفق هو ذلكم الرضي القنوع الذي يراه الناس على حقيقته كما هو دون تزويق أو تكلف، عرف قدره قبل أن يعرفه الناس، سمته البساطة والسماحة، فهو لا يتكلف مفقودًا ولا يبخل بموجود، يحب أن يراه الناس على صورته الحقيقية كما يحب هو أن يراهم كذلك، لا تجده بليدًا يتكلف الذكاء، ولا بخيلاً يتكلف الكرم، ولا فقيرًا يتكلف الغنى، وإنما يمد رجليه على قدر لحافه، ويأكل مما يليه؛ لأن التكلف تصنع وإظهار سلوك خلاف الحقيقة، ومن كان لا يغنيه ما يكفيه، فكل ما في الأرض لا يغنيه، قال ابن المنذر: علامة المتكلف ثلاث: أن ينازل من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم. وأضاف: كلمة تكلف تشعر المستمع بداهة أنه الخروج عن المعتاد والمبالغة في تطلب ما يشق ويصعب وما ليس له أو ليس بإمكانه، وهذا خروج عن الأدب النبوي والوسط المرعي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير عباد الله وأكرمهم وأجودهم وأشجعهم، لم يكن متكلفًا قط، ولا متصنعًا قط، حتى في دعوته وتبليغ رسالة ربه لم يكن كذلك فكيف بعاداته وشمائله، وهو الذي قال له ربه (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) أي: المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهل وإن من أسمى ما بعث به بشيرًا ونذيرًا أن يبلغهم بأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فلم يكلفهم بما لا يطيقون، بل إنه رحمة مهداة ونعمة مسداة (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). وأوضح “الشريم” أن التكلف ما كان في شيء إلا شانه، ولا نزع من شيء إلا زانه، وقد أحسن من عاش كما هو دون تزويق أو تكلف؛ ليقينه بأنه لن يعيش هنيًا رضيًا إلا بحقيقته، وما التزويق والتكلف زيادة له في الجاه ولا طولاً في العمر، وإذا كان التكلف بريد الإسراف والفشل فإن ترك التكلف بريد القناعة والتواضع والفلاح، وإن تواضع المرء لربه ثم ثقته بنفسه يقودانه إلى ألا يلبس لبوسًا غير لبوسه ولا أن يتكلف مفقودًا أو يبخل بموجود، وهذا كله لا يعني أنه حث على تصنع البساطة والتواضع، كلا فإن ذلك تكلف ممقوت أيضًا، ذلك أن البساطة وعدم التكلف سبب في الاستقرار الاجتماعي وتجانسه وكسر سوطه الذي يجلد به الرضا والقناعة. وتابع: من المحزن جدًا أن يرى المرء كثيرًا من عادات الناس الاجتماعية تتقاذفها مضارب التكلف في اتجاهات شتى تخرجها عن سيطرة العقل والمنطق، إما هروبًا من تغيير وإما طلبًا للمباهاة وإما شدًا لانتباه الآخرين، فثمة تكلف في الكرم وتكلف في الأفراح بل وتكلف في أحزان العزاء، وكم من عادات أوقعت أصحابها في ديون وحقوق وفرقت بين أسر ومحقت بها بركة في النفس والمال والولد، وما أكثر القريبين الذين أبعدهم التكلف، وأهل الكرم الذين أفقرهم، والمستورين الذين كشفهم. وأكد أن الإسلام يحض على الكرم وينهى عن التكلف، ويحب الجمال لكنه يبغض التصنع، والمسلم الواعي لا يتكلف ولا يكلف غيره، مشيراً إلى أن التكلف والتصنع عدو القناعة والرضا، وأن المتكلف لن يذوق طعم الراحة حتى يتركه، ولن يتركه حتى يلزم القناعة فإنها ترفع النفس إلى علو لا تبلغه بالتكلف. وألمح إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن البساطة توسط بين تكلف مفرط وإهمال مفرِّط، والمتكلفون كلابسي الأقنعة فهي لا تدوم على وجوههم أبدًا؛ لأن الحقيقة أطول عمرًا من التزوير، وقال: من هذه حاله كيف يثق بنفسه، بل كيف يثق به الآخرون، إن أمثاله بلا ريب لم يلجأوا إلى التكلف إلا لإحساسهم بالخوف وشعورهم بالنقص ومراقبتهم الناس أكثر من مراقبتهم أنفسهم، تركوا استعمال أنفسهم بما وهبهم الله فتقمصوا ما وهبه غيرهم، ولو أن كل إنسان عاش في دنياه بما مكنه الله لما احتاج إلى أن يبني عاداته على شفا جرف هار لينهار به في وادي التصنع المغرق. وأكد أنه إذا كان التكلف مذمومًا في عادات الناس وأخلاقياتهم فإنه في عباداتهم من باب أولى، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن شعائر الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بأمر أتشبَّثُ به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله” رواه الترمذي, فقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بما يلائم حاله وقدرته، ولم يأمره بتكلف ما ليس له مكنة به ولا هو قادر عليه، وقد أحسن من انتهى إلى ما علم من نفسه. وأضاف: قال عبدالله بن عمرو بن العاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت. فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (أنت الذي تقول ذلك) فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رَسُول اللَّهِ. قال: (فإنك لا تستطيع ذلك؛ فصم وأفطر ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر) قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال:(فصم يوماً وأفطر يومين) قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال: (فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام) وفي رواية: (هو أفضل الصيام) فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (لا أفضل من ذلك) فكان عبداللَّه يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وشدد إمام وخطيب المسجد الحرام على أن من أخطر ضروب الغلو والتنطع هو الغلو المفضي بصاحبه إلى سلوك مسالك التكفير واستحلال أمن الناس ودمائهم لهتكه إحدى الضرورات الخمس التي أجمعت عليها الملل قاطبة وهي ضرورة حفظ الدماء؛ لأن المغالين المتنطعين يقودهم غلوهم إلى التكفير جزافًا فيستحلون بسببه دماء المعصومين، فيرهبون ويهلكون ويفسدون والله لا يحب الفساد، مؤكدًا أن هؤلاء وأمثالهم أول واقع فيما يحفرونه من حفر، لا يخرج منهم فئة إلا محقها الله، يمقتهم الصغير والكبير والأعمى والبصير، فقد نقضوا بعد غزل وقطعوا بعد فتل، فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى ومن الحور بعد الكور, مستشهداً بقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم؛ فطوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعه الله (فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع) .رواه الإمام أحمد. وقال: فلله ما أقبح الإرهاب وما أنذله بدأ بصاحبه فقتله، هتك شرع الله وأمن المجتمع ولحمة الأمة، والله جل وعلا يقول (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
مشاركة :