لم يتحرج على مبارك من ذكر منافع الفنون بعامة والمسرح بخاصة ودوره فى تربية الذوق العام وتوعية الأذهان وإيقاظ الروح الجمعي، فقد نظر إلى المسرح على أنه أحد منابر التعليم والتثقيف لا يقل أهمية عن المدارس والمعاهد العلمية، فقد تحدث عنه فى مسامرتين وحرص خلالهما على توضيح أهمية (التياترو) بوصفه إحدى آليات النهضة التى تتخذ من النهج الهزلى وعاء لتحمل فيه أكثر القضايا جدة من حيث العرض أو المعالجة، فتبصّر الرأى العام بحقيقة الأمر الذى تناقشه وتحثه على القيام بدوره تجاه أمته وإصلاح ما فسد من الأخلاق والعادات، وتقويم المعوج من السياسات ونقد تصرفات الحاكم، وفضح غش المدلسين والمتاجرين بالدين. ويقول عن أهمية التياترو على لسان أحد أبطال حكاياته (العالم الإنجليزي): «هو عبارة عن محل تجتمع فيه جملة من الخلق، مختلفة فى الثروة والاقتدار، لأجل التفرج على أنواع مختلفة من ألعاب منتخبة من آثار بعض المشهورين من العلماء والشعراء والعقلاء والبلغاء، فيتشكل بحسب الألعاب التى يراد إجراؤها، فتارة تكون عبارة عن تصوير بعض وقائع عربية أو وقائع وأحداث تاريخية وتقلبات سياسية واجتماعية، وتصوير بعض القصص الدينية، والطبائع النفسية والخلقية. وقد يتعاقب فى بعضها جملة من أنواع الألعاب، كالجد والهزل، والمفرح والمبكى، وفى المعتاد لا يستعمل إلا اللسان المتعارف عليه والألفاظ المعتادة، أى مخاطبة الجمهور بلغة بسيطة وأسلوب لين لتحقيق الغاية من العرض المسرحى والأداء التمثيلي، فالهدف كما ذكرنا هو التبصير والإفهام والإمتاع والتوجيه غير المباشر».ويستفيض على مبارك فى وصف كل ما يجرى فى التياترو بداية من تصميم خشبة المسرح وملابس الممثلين ونهاية بالموسيقى التصويرية والأغانى المصاحبة للأعمال الفنية المقدمة. وقد أراد بذلك تمهيد الطريق لإذاعة هذا الفن وتطبيقه فى الثقافة المصرية والتأكيد على أن هذا الفن رسالة لا تقل أهمية عن إلقاء الدروس والخطب فى المدارس والمنتديات العامة وكتابة المقالات فى صحف الرأي. ولا ريب فى أن على مبارك يعد من أوائل النهضويين الذين هيأوا أذهان الرأى العام لتفعيل ذلك الفن فى الثقافة العربية. ويقابل على مبارك بين التياترو فى الثقافة الغربية وما كانت تفعله بعض الفرق التمثيلية والغنائية فى مصر مثل (أولاد رابية) - «وهى فرقة من أقدم الفرق التمثيلية الهزلية، وقد عُرفت فى القرن التاسع عشر فى القاهرة، وقد وُصف معظم ما قدموه من أعمال مسرحية بالابتذال والبذاءة»- وذلك على لسان (علم الدين) الذى امتدح الغاية التربوية والإصلاحية للفرق التمثيلية الغربية، بينما ذم الفرق التمثيلية المصرية وما كانت تقدمه من تصرفات مبتذلة وألفاظ نابية وبعض مظاهر الفحش والمجون والفجور وغير ذلك من الأمور التى يحرمها الشرع، تلك التى كانت تقدمها بعض الفرق الهزلية فى القرى وفى المدن أثناء الموالد والاحتفالات. وينتقد علم الدين أيضا الغناء العربى – فى منتصف القرن التاسع عشر - مبينا أن القليل منه هو الذى يخاطب المشاعر والأحاسيس فيرقيها، والأنفس فيزكيها والأذهان فيثقفها ويوعيها. والكثير من الأغانى التى نسمعها الآن يغلب عليها الصنعة المفتقرة إلى الإبداع الفنى والتدنى فى القول، وصياغة الصور ووصف المشاهد، ويقول: «ومما نتأسف عليه أننا نرى فيما نقل إلينا من أغانى القدماء فى كتب الأدب كلمات تحث على الكرم والفتوة والنخوة ولا نرى الأغانى عندنا فى هذه العصور إلا مقصورة على العشق واللذة والشهوة، فلا نرى لها أثرا يحمد فى التربية وتهذيب الأخلاق، بل ربما كانت فى بعض الأحوال مما يضر بذلك، كما قلناه فى لعب «أولاد رابية» والذى أظنه بحسب ما سمعته أن ما وصفته من التياترو الغربى ليس بهذه المثابة، فإن الجماعة المعروفة بأولاد رابية إنما هم أشخاص لا علم ولا خلق لهم ولا رسالة لهم – وكأن على مبارك يصف ما نحن فيه الآن - وذلك على العكس من الممثلين الغربيين الذين يفقهون الرسالة الحقيقية للمسرح، وأكثرهم لا يحيد عن آداب المسرح أو الغناء، تبعًا بالضرب التربوى التوجيهى الذى يتعمد التمييز بين الحسن والقبيح، والكاذب والصحيح، وكل ذلك بألفاظ عذبة وعبارات رقيقة مستحبة، ولا يفعل ولا يقال ما يخل بالأدب والكمال، كما يتسم الغناء الغربى آنذاك بجودة الأداء وحسن الإلقاء وموافقة قواعد الموسيقى، فغاية التياترو والفنون بالجملة هى جلب الأنس، وتنشيط النفس، وتسريح الناظر فى المرائى المختلفة والمناظر الحسنة اللطيفة».ويعنى ذلك أن على مبارك كان من أوائل النهضويين الذين رفعوا شعار الفن للمجتمع، ويبدو ذلك فى وجهته العملية التى وجه التياترو إليها، فللفن عنده وظيفتان، أولهما ترفيهى للترويح عن النفس واستعادة النشاط وترقية الأذواق، والثانية توجيهى ينصب على نقد الواقع وتجديد البرامج التربوية وتحديث الدروب التنويرية وإيقاظ الرأى العام بكل طبقاته، وأعتقد أن زماننا أحوج ما يكون لمراجعة ما نطلق عليه الآن أعمالا فنية، تلك التى تمكن التلوث من جلها، وأصاب العطب والتدنى والانحطاط أشكالها قبل مضامينها، إلى درجة أن الإسفاف الشاغر من الإبداع والسافل من الموضوعات فى دور التمثيل وقاعات الأغانى وفى الإذاعة والتلفاز أصبح هو الرائج والراجح فى أذواق شبيبتنا وأطفالنا.ويؤكد مفكرنا أن القيادات الصالحة والعقول المستنيرة هى التى تستعين بالفنون لتربية الرأى العام ونشر روح الوئام بين أفراده وطبقاته، وإصلاح كل ما أصابه العطب من أخلاقياته وسلوكه وعاداته، وتوحيد العقل الجمعي، واستنفار الشبيبة وحثهم على العمل والتضحية من أجل الوطن والانتماء إليه والاستشهاد فى سبيله وإذكاء فى الشعب روح الصبر والجلد، والتحدى للصعاب ومآزق الحياة، وأخيرا إنقاذ الأنفس من الكدر، وجراثيم اليأس، ونشر روح التفاؤل والبهجة والسرور فى أحلك المواقف والأمور. وللحديث بقية عن دور الفنون ورسالتها التربوية.
مشاركة :