أعلنت الإدارة الأميركية أن الإعفاءات التي كانت سارية بما يخص شراء النفط الإيراني سوف تتوقف في مطلع شهر مايو المقبل. وشملت تلك الإعفاءات ثماني دول هي تركيا والهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا واليونان وتايوان. وفيما يتوقع أن تلتزم معظم تلك الدول بالقرار الأميركي، تحدت كل من تركيا والصين الإجراء الجديد عبر سلسلة من التصريحات الرافضة له. مع ذلك تبدو فرص تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني كبيرة جدا بسبب تعدد أوراق الضغط الأميركية على الدول المتعاونة مع إيران. رغم التصريحات التركية المعادية للقرار، يبدو هامش المناورة ضيقا بالنسبة لأنقرة أمام وسائل الضغط التي تتمتع بها الولايات المتحدة. بدا ذلك واضحا قبل نحو عام في أزمة احتجاز القس الأميركي، آندرو برونسون، من قبل أنقرة. ردت واشنطن حينها بسلسلة من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية التي طالت مسؤولين أتراكا وشركات تركية. وفي وقت لاحق، قامت إدارة الرئيس دونالد ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على الواردات التركية، وهو ما أجبر أنقرة على الرضوخ وإطلاق سراح القس الأميركي. ففيما يبلغ حجم الصادرات التركية لإيران نحو 3 مليارات دولار، فإن صادراتها للولايات المتحدة هي ثلاثة أضعاف ذلك. تشير تلك الحقائق إلى ضعف قدرة أنقرة على مقاومة الرغبة الأميركية في تشديد العقوبات على طهران. الصين من جهتها هي المستورد الأكبر للنفط الإيراني وسيكون التزامها بالقرار الأميركي ضروريا من أجل نجاحه. ولكن هذا يصطدم بالحجم الاقتصادي الهائل لبكين، وميلها لرفض الظهور بمظهر الخاضع للإدارة الأميركية، وخصوصا في خضم مفاوضات مكثفة ومعقدة حول التجارة بين البلدين. قد يدفعها ذلك إلى تحدي القرار الأميركي ومواصلة استيراد النفط في الفترة القادمة. ولكن، على المدى البعيد، يمكن لواشنطن أن تمارس الضغط عبر قنوات متعددة وترفع من تكلفة ومخاطر عدم التقيد بالقرار. لا يجب أن ننسى أن ضغوط الولايات المتحدة كانت قد دفعت الصين إلى الموافقة على قرارات مجلس الأمن التي شددت العقوبات الاقتصادية على إيران قبل توقيع الاتفاق النووي في العام 2015. ففي العام 2006، وافقت الصين على قرار لمجلس الأمن أعطى إيران مهلة زمنية لوقف تخصيب اليورانيوم وهدد بعقوبات في حال عدم التزامها. وفي العام 2008، وافقت بكين على قرار لمجلس الأمن ينص على فرض عقوبات اقتصادية تحظر أنواعا من التكنولوجيا الضرورية لبرنامج إيران النووي، فضلا عن تجميد الأصول المالية. ومع مواصلة إيران عرقلة إجراءات التفتيش الدولية للمواقع المشكوك بنشاطها النووي، اندفعت إدارة الرئيس باراك أوباما في العام 2009 إلى تصعيد العقوبات الاقتصادية لتستهدف قطاعات النفط والغاز والتكنولوجيا. كما منعت العقوبات تصدير المشتقات النفطية والتكنولوجيا إلى إيران، التي تستورد 40 في المئة من المشتقات النفطية رغم تصديرها للنفط. وتطلبت موافقة الصين على ذلك القرار مزيدا من الضغوط الأميركية، والتي تمثلت بتوقيع صفقات أسلحة مع تايوان، التي تعتبرها الصين جزءا من أرضها التاريخية وتتطلع إلى ضمها. كما تضمنت الضغوط لقاء باراك أوباما، الزعيم الروحي لإقليم التبت، الدالاي لاما، في تحد كبير للصين. دفع ذلك الأخيرة إلى الموافقة على قرار مجلس الأمن في يونيو 2010، وهو القرار الذي كان حاسما في تصعيد الضغوط الاقتصادية التي قادت إلى الاتفاق النووي في العام 2015. في نهاية المطاف، تبدو حظوظ نجاح الخطة الأميركية كبيرة، وذلك لأن تطبيق القرار الأميركي من قبل الدول المعنية لن يتسبب في أضرار اقتصادية، إذ يمكن تعويض النفط الإيراني من دول الخليج العربي التي تعهدت بزيادة الإنتاج النفطي وتغطية العجز الذي سيخلقه غياب النفط الإيراني. بالمقابل فإن عدم الامتثال للقرار ستكون له تبعات كبيرة إذ أثبتت العقود الماضية قدرة واشنطن على توظيف سلاح العقوبات بصورة فعالة جدا تتسبب في شلل اقتصاديات الدول المستهدفة. ليس أمام الولايات المتحدة من خيار سوى المضي قدما في تشديد العقوبات. فبعد الانسحاب من الاتفاق النووي، وجدت واشنطن نفسها أمام خيارين: الحرب بكل ما تترتب عليه من مخاطر، أو تصعيد العقوبات إلى مستويات غير مسبوقة. خلّفت إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، منذ نحو ستة أشهر، أضرارا واسعة، إذ تتآكل قيمة العملة الإيرانية بصورة مستمرة ما يتسبب في ارتفاع متوصل في الأسعار. كما تسببت العقوبات في مغادرة الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال الوطنية، وهو ما أدى إلى نقص حاد في توفر السلع الأساسية ودخول الاقتصاد الإيراني حالة ركود. وكانت تلك الآثار المدمرة هي ما دفع طهران إلى تقديم التنازلات بما يخص برنامجها النووي وتوقيع الاتفاق في العام 2015. ولكن إدارة ترامب لا تتطلع إلى توقيع اتفاق مماثل، بل تأمل بأن تؤدي العقوبات إلى تعميق أزمة النظام الإيراني وإلى تفجير نقمة الطبقات الشعبية التي تتعمق معاناتها بمرور الوقت دون أن ترى نهاية واضحة لتلك المعاناة.
مشاركة :