سمات التفكير التاريخي قبل العصر الحديث

  • 4/27/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تقوم أي حادثة تاريخية على ثلاث دعائم هي: الزمان والإنسان والمكان، ولا يمكن تصور أي حادثة تاريخية خارج حدود هذه الدعائم الثلاث، والمادة التاريخية هي العنصر الأول في كتابة التاريخ، وكلما توافرت وتنوعت كلما استضاء أمام مؤرخ العصر الذي يؤرخ له. وقد يظن الكثيرون أن التاريخ يدرس اعتباطاً من دون فائدة، إلا أن فوائده متعددة منها العبرة والعظة، والاستفادة من تجارب السابقين لكي نتعلم من أخطاء الماضي لنتفهم الحاضر ونتلمس المستقبل بعيداً عن تلك الأخطاء حتى لا نقع فيها مرة أخرى، فدراسة التاريخ لا غنى عنها للإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً، ولهذا ينبغي عليه أن يعرف تاريخ تطوره وتاريخ أعماله وآثاره، بحيث يمكننا القول بأن التاريخ ضرورة اجتماعية لكل جماعة بشرية لكي تتعرف على ماضيها الذي يساعدها على تفهم حاضرها وتلمس طريقها إلى مستقبلها. ولهذا اهتم المسلمون بتدوين حركة الفتوح الإسلامية، من خلال مناهج الجرح والتعديل، فظهرت أمهات الكتب، أولاً بفتوح البلدان، ثم بالتاريخ كتاريخ بغداد للبغدادي، وسيرة ابن هشام، وتاريخ ابن خلدون، وتاريخ الرسل والملوك للطبري، ثم ظهر نمط الخطط على يد المؤرخ تقي الدين المقريزي، وكان المسلمون سباقين في هذا العلم. تعتبر محاولات التدوين التاريخي التي قام بها المؤرخ المصري مانيتون في القرن الثالث قبل الميلاد أولى المحاولات في التاريخ القديم لتدوين التاريخ بنظام الحوليات في ترتيب الوقائع، أما أقدم المؤلفات الأدبية التاريخية التي عرفها الأغريق فتتمثل في ملحمتي الإلياذة والأوديسا التي تنسب إلى هوميروس، ثم جاء هيرودوت الملقب بأبي التاريخ، فتجول في سبيل جمع المعلومات التي تضمنها تاريخه، أما بوليبوس فهو مؤرخ يوناني عاش في روما وكتب في تاريخ الجمهورية الرومانية، واشترك في الحرب إلى جانب روما ضد مقدونيا وصاحب الجيش الروماني في معاركه، وتميز منهجه بالنزعة العلمية والبعد عن الأسلوب الخطابي وتحاشى الأسلوب الأدبي، فلما تفكك العالم الروماني ابتداء من القرن الثالث الميلاد، وأصبحت المسيحية الدين الرسمي للدولة، وأصبح لرجال الدين مكانة مرموقة في المجتمع، خاصة في مجال الفكر والتعليم والثقافة، لأنهم نجحوا في الحفاظ على التراث الإغريقي والروماني، وابتعد تدوينهم التاريخي عن الصيغة العلمية التي اتسم بها في العصور القديمة، وأصبح عبارة عن سجل لكرامات وتضحيات القديسيين، ولا يهتم إلا بما له صلة بالدين، ثم ظهر الصراع بين الإمبراطورية والبابوية منذ منتصف القرن التاسع، فبدأت الكنيسة تمارس تدريجيًا سلطة زمنية، وأصبح لها هيكل يتمثل في القساوسة والأساقفة والكرادلة وعلى قمة هذا الهيكل يجلس البابا، واستفاد الإقطاع من النزاع بين السلطة الدينية والزمنية، وشارك الأمراء في الحروب، التي اندلعت في كل من إيطاليا وألمانيا حتى القرن الـ13، وانعكست هذه الأوضاع على علم التاريخ والكتابة التاريخية، إذ هيمنت المسيحية على الحياة السياسية والفكرية وتولى رجال الدين مهمة تسجيل الأحداث والوقائع، واتخذت المؤلفات في البداية شكل الحوليات، واهتمت بالخوارق. تشهد القرون التالية شكلان من المؤلفات التاريخية أولها عرف بالتواريخ، وهي تكتب في شكل حوليات إلا أنها أكثر تفصيلاً، وتعنى بكتابة التاريخ العام منذ بداية الكون، ومن أشهر هذه التواريخ تواريخ نانت التي ظهرت في فرنسا، أما الشكل الثاني فقد عرف بالكاتلوج، وهو عبارة عن تراجم على مستوى إقليمي يتعرض للشخصيات المهمة من قديسيين ونبلاء وإقطاعيين، وإلى منتصف القرن الـ17 كان التاريخ في الغرب فرعاً ثانوياً قليل الأهمية، يهتم به بصورة خاصة الرهبان وحواشي الملوك، بحيث وجه الرهبان همهم إلى شؤون الدين وتواريخ البابوات وأخبار القديسين، أما ما كتبه حواشي الملوك من سير سادتهم وما قاموا به من أعمال فأكثر قيمة من الناحية العملية، وإن كان يغلب عليه الملق والمبالغة والأكاذيب، إلا أنها تضم مادة تاريخية يمكن استخلاص حقائق نافعة منها. والخلاصة أنه حتى ذلك الوقت لم يعرف الغرب شيئاً يمكن تسميته علم التأريخ، وفيما عدا مؤرخي العصور القديمة ما بين إغريق ورومان من أمثال هيرودوت وتوكيديدس وبوليبيوس وتيتوس وليفيوس ومارسيلوس اميانوس، لم يكن يُعرف إلا أصحاب مدونات أشهرهم اجينارت مؤرخ شارلمان، ودي جوانفيل مؤرخ الحملات الصليبية. أما فولتير في مؤلفه الأول في التاريخ عن حياة وأعمال شارل الـ12 ملك اسكنديناوه وحروبه مع الروس، فإن الكثيرون يميلون إلى اعتباره مؤسس علم التأريخ بمفهومه الحالي في الغرب. وشهد عصر النهضة مؤلفات أصبحت من ذخائر المكتبة التاريخية، كمؤلفات مكيافيلي، وإدوارد جيبون، والألماني فيكو، ويوهان هيردر، ليوبولد رانكه، هيجل، كارل ماركس، جورجي بليخانوف، ويل ديورانت، وغيرهم. وأخيرًا جاء اكتشاف الطباعة عام 1450 ليكمل عملية انتقال الكتابة التاريخية من يد رجال الدين إلى العلمانيين، خاصة بعد أن توسعت مدارك العالم الأوروبي بالكشوف الجغرافية وبعد أن انهارت سلطة الاقطاع العسكرية، وبدأت تظهر الملكيات القومية تحميها الجيوش النظامية بعد أن استفادت من اكتشاف البارود وزوال طبقة الأمراء بالموت في الحملات الصليبية أو الاستقرار في الشرق. 

مشاركة :