جريا على عادته في الاحتفاء بكبار الأسماء من أعلام الفكر والفن والآداب والعلوم، وشّى محرك البحث العالمي العملاق غوغل شعاره الشهير أمس الأحد برسم مستوحى من الحضارة المصرية القديمة يُظهر أحد الفراعنة جالسا على عرشه واضعا تاج القُطرَيْن على رأسه ممسكا صولجانه وسوطه، ومن تحت العرش تنبثق زهرة اللوتس رمز الحياة والخلود في مصر القديمة. وأمام الفرعون، ولكن في مستوى أدنى منه، يقف شخص في هندام أوروبي يحمل بين يديه، أو يكاد، بَكْرَةَ فيلم من هذه التي ظلت تستعمل في السينما قبل دخولها العصر الرقمي، وليس هذا الشخص الذي يتقرب للفرعون بهديته إلا المخرج السينمائي المصري الشهير شادي عبد السلام الذي يحتفل العالم بمرور خمسة وثمانين عاما على ميلاده (ولد يوم 15 مارس/آذار 1930 وتوفي عام 1986). ألم المتاجرة بالماضي أما السر في جمع إدارة غوغل بين شخصيتين متباعدتين زمانيا ضمن رسم واحد، وهما شخصية الفرعون القادم من أعماق التاريخ مخترقا آلاف القرون، وشخصية شادي عبد السلام المخرج المعاصر الذي غادرنا منذ زهاء ثلاثين سنة، فمرده أن هذا الأخير كان أبرز سينمائي مصري عرف كيف يتجاوز النظرة السطحية التمجيدية في تعامله مع الحضارة الفرعونية. فهو لم يبحث فيها عن أصول حقيقية أو مفترضة يتماهى معها وإليها ينتسب، بل جعل وعيه بها وعيا دراميا عندما طرح في شريطه الشهير المومياء مسألة الاتجار في الآثار. كانت قبيلة الحربات -كما يسميها شادي عبد السلام في الشريط- إحدى هذه القبائل التي ظلت أبا عن جد تقتات من بيع الماضي المحنط لتجار الحاضر الأوروبيين المأخوذين بأسرار الحضارة المصرية. ومع وفاة شيخ القبيلة، يظهر على سطح الأحداث جيل جديد من الأبناء الذين يرفضون السير على نهج الأجداد والآباء.. لحظة صراع درامي يسيل فيها الدم على تراب الصحراء القاحلة ويصبح التراث في صلته بالراهن إشكالا صميما وسببا في الاقتتال الداخلي بعدما ظل سنوات طويلة مصدرا للاسترزاق من الخارج. ما قبل المقاولات لم يكن شريط المومياء فريدا من جهة الحكاية التي ارتكز عليها فقط، بل إن الاختيارات الجمالية والفنية واللغوية كانت غير مسبوقة بمعايير نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. فقد تعمد شادي عبد السلام أن يُجري الحوار بين شخصياته باللغة العربية الفصحى في زمن كانت فيه حوارات الأشرطة السينمائية التاريخية بالدارجة المصرية، بما في ذلك بعض أفلام يوسف شاهين، وهو من هو! والأهم من ذلك أن الحوار كان مقتصدا كل الاقتصاد إلى درجة الغياب، مما دفع شادي عبد السلام إلى الاشتعال بالصورة وعليها، فكان اختيار زوايا الالتقاط في غاية الحرفية، وكانت حركة الكاميرا على قدر كبير من الانسيابية والتعبيرية، بالإضافة إلى إلحاح واضح على الأطر والمشاهد المقربة التي أكسبها تباين الألوان والعناية الفائقة في اختيار الملابس والأكسسوارات قدرة تعبيرية لا نظير لها. مع كاستينغ أتاح لبعض الممثلين الذين استهلكتهم السينما أن يظهروا في أدوار تفتقت فيها مواهبهم التمثيلية -مثل أحمد مرعي، ونادية لطفي، وعبد العظيم عبد الحق- فلا غرابة أن يجمع النقاد على اعتبار المومياء تحفة فنية عالمية وعلامة على بلوغ السينما المصرية أرقى درجات نضجها الفني والجمالي، قبل أن تنحدر إلى ما ستعرف بـسينما المقاولات التي لم تَنجُ من دوامتها المفزعة المفرغة إلا بعض الأسماء القليلة كعلي بدر خان وعاطف الطيب وغيرهما. في عيد ميلاده الخامس والثمانين، تضع غوغل شادي عبد السلام في حضرة الفراعنة لتذكرنا بأن هذا المخرج الفذ ليس إلا امتدادا لتلك الحضارة العريقة بأسرارها الضاربة في القدم وآلامها المتجددة مع دورة الزمان وإكراهات الحداثة والمعاصرة.
مشاركة :