يولد الأمل من رحم مآسي العالم وآلامه

  • 4/29/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا يكاد يمر يوم واحد إلا وتأتينا الأخبار عن الفظائع والمآسي المؤلمة التي تحدث، إما هنا في الولايات المتحدة الأمريكية أو في مناطق أخرى من العالم. هناك تقارير كثيرة عن عائلات مزقت الحروب والصراعات المحلية أوصالها، إضافة إلى الأخبار المتعلقة بالجرائم الإرهابية الدامية التي تزهق فيها أرواح الأبرياء. في ظل هذا الكم الكبير من الآلام والدموع والمعاناة تهتز ثقة الإنسان في أن نوازع الخير هي التي ستنتصر في نهاية الأمر على الشر وتزعزع إيمانه بأن غدا سيكون حتما أفضل من ماضيه وحاضره. تتقاذفني المشاريع في ظل كثرة الشرور التي باتت تواجه الإنسانية. وجدت ملجئي في الأفكار التي عبر عنها الفيلسوف وعالم الدين المفضل عندي تيلهارد دا شاردان. فهو يعتبر أن المسألة في جوهرها لا تتعلق بزيادة أعمال الشر في العالم بقدر ما تتعلق بزيادة وعي الإنسان بالشر الموجود في العالم. فقد ازداد وعينا وأصبحنا أكثر قدرة على التجاوب مع المعاناة والآلام، وهو ما يدفعنا إلى العمل على تحسين الظروف التي تسببت بها. قبل قرن من الآن، ارتكبت فظائع مرعبة في مختلف قارات العالم غير أن تلك الجرائم المروعة لم يعلم بها سوى الضحايا وجلاديهم الذين نكلوا بهم وأزهقوا أرواحهم. تغير كل شيء واختلف الحاضر عن الماضي في عالم اليوم. فقد شهد عالمنا المعاصر طفرة غير مسبوقة في وسائل التواصل، من التلغراف إلى الراديو والمحطات التلفزيونية الفضائية إلى شبكة الإنترنت. أصبحنا نعلم عن المآسي والآلام التي تحدث في هذه المنطقة من العالم أو تلك في ساعة حدوثها ونحن في منازلنا. لقد ازداد وعينا وقد شهدت فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت سنة 1939 وحطت أوزارها سنة 1945 ظهور عدة قادة ملهمين يتمتعون برؤية ثاقبة كما شهدت نفس الفترة نشأة عدة منظمات كرست جهودها للتخفيف من آلام البشر ونشر قيم السلام وحقوق الإنسان والتسامح بين أبناء البشر. لقد راحت هذه المنظمات مند نشأتها تعمل على الدفاع عن حقوق الشعوب في مختلف أنحاء العالم. لقد ناضل نفس هؤلاء القادة والمنظمات والجماعات من أجل تكريس الحقوق المدنية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلدانهم. عندما نرى مدى التفاعل وردود الأفعال في وجه الشرور المتزايدة في العالم فإن ذلك يثلج صدورنا ويزرع فينا الأمل ويلهمنا من أجل بذل المزيد في هذا العالم. نحن نقرأ الكثير من التعليقات والتحليلات التي تتحدث عن انعدام الاستقرار والإرهاب والحروب التي تعصف بالعالم العربي بشكل غير مسبوق. ظل المحللون في الغرب يعتبرون أن هذه الحروب والصراعات ناجمة عن العنف المتجذر في الثقافة والمجتمع العربي وما يعانيه من وهن داخلي. ردا على مثل هذه التحليلات فإنني أدعو هؤلاء «الكتاب العارفين» إلى أن يتذكروا جيدا أن الدول الموجودة في القارة العجوز قد شهدت خلال ثلاثين سنة من التاريخ الأوروبي نشوب حربين مدمرتين أزهقت فيهما أرواح أكثر من 50 مليون شخص، من دون أن ننسى عشرات الملايين من العرب والأفارقة والآسيويين الذين أزهقت أرواحهم بسبب الحكم الاستعماري الأوروبي الذي بطش بهم وقتلهم تقتيلا. لقد قتل أغلب هؤلاء الملايين من العرب والأفارقة في أغلب الأحيان من دون أي ذنب ارتكبوه ومن دون أن يتساءل أي أحد عما يعاني منه المجتمع الأوروبي أو الثقافة المسيحية. لقد أزهقت أرواح الأبرياء من الأرمن والأوكرانيين والهنود والجزائريين علما أن المآسي التي عاشوها والجرائم التي ارتكبت في حقهم ظلت غير معترف بها رغم مرور عدة عقود على حدوثها. أما اليوم فقد أصبحنا ننظم المظاهرات والاحتجاجات دفاعا عن المسلمين الروهينجا وسكان دارفور وتيمور الشرقية واليزيديين والمسيحيين في العراق. أما المنظمات الدولية غير الحكومية فقد تقود الحملات الواسعة من أجل تحقيق العدالة للشعوب المقموعة على الجانب الآخر من العالم، إضافة إلى المظاهرات التي تنظم انتصارا لضحايا التعذيب ومليارات الدولارات التي تجمع من أجل مساعدة أولئك الذين هجَّرتهم الحروب أو إنقاذ ضحايا الكوارث الطبيعية والمجاعات. أما في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فقد كان ملايين الأمريكيين من أصل إفريقي قبل أقل من خمسة عقود من الآن يعانون من التمييز الجائر الذي جردهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية والعادلة. خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ فقد أكثر من مائة ألف مواطن أمريكي من أصل ياباني محلاتهم التجارية وأعمالهم وأملاكهم ووجدوا أنفسهم يعيشون في المعسكرات التي أقيمت خلال فترة الحرب. رغم أن الأمريكيين من أصل إفريقي لا يزالون يعانون حتى اليوم من انعدام العدالة الاقتصادية والاجتماعية ورغم أنهم مازالوا مستهدفين من السلطات التي تتوخى أسلوب العنف في التعامل معهم فقد أمكنهم تحقيق تقدم ملموس بفضل تلك الحركات القوية التي تزعمها قادة ملهمون يحملون رؤية قوية كما أنهم وجدوا كل الدعم من أصحاب الضمائر الحية، ما يجعلهم ينتفضون ويطالبون بالعدالة والتغيير. رغم أن الكثيرين كانوا يخشون أن يعامل العرب والمسلمون الأمريكيون في فترة ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2011 كما عومل الأمريكيون من أصل ياباني، وهو ما جعل العشرات من منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية والدينية، إضافة إلى الجماعات الإثنية الأخرى، تهب للدفاع عنهم بقيادة الأمريكيين من أصل ياباني. لقد تحرك نفس ذلك الائتلاف بشكل تلقائي إلى حد كبير وهرعوا إلى المطارات للترحيب بالمسلمين القادمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أعلن الرئيس دونالد ترامب قبل ذلك قراره بمنعهم من دخول الأراضي الأمريكية. إن الدروس المستفادة واضحة. لقد تغير العالم للأفضل. صحيح أن الشر لا يزال يعيش بين ظهرانينا غير أن الوعي العميق بالشرور والعزم الراسخ على مقاومتها والتصدي لها لعبا دورا كبيرا في مساعدتنا على إحداث التغيير وصنع الفارق. في هذا السياق -تحديدا- ستحتضن منظمتنا؛ أي المعهد العربي الأمريكي، هذا الأسبوع العشاء السنوي لتوزيع جائزة خليل جبران «روح الإنسانية». نحن نحرص على الاستفادة من هذه المناسبة لتكريم أولئك الأشخاص والجماعات الذين أسهموا في زيادة وعينا الجماعي بمظاهر المعاناة وعملوا قدر الإمكان على التخفيف من تلك الآلام. تشمل قائمة المكرمين هذه السنة ليز دوسيت من محطة البي بي سي، والتي أسهمت من خلال تغطياتها الصحفية في تسليط الأضواء على القصص الشخصية لأولئك الذين دمرت الحروب حياتهم، إضافة إلى رئيس مجلس المدينة غيس نيوبورت الذي ظل على مدى خمسين سنة في مقدمة الجهود الرامية إلى تكريس العدالة العرقية والاقتصادية والسياسية والبيئية ومنظمة RAICES التي تكرس جهودها لمساعدة العائلات التي مزقتها سياسة فصل أبناء الأسر التي فرضتها سلطات الهجرة. تشمل قائمة المكرمين أيضا مريم زايد الناشطة المجتمعية التي علمتنا من خلال حياتها الحقيقة البسيطة أن القادة المتواضعين هم أولئك الذين يسخرون حياتهم لخدمة الآخرين، إضافة إلى المغنية التونسية آمال المثلوثي التي تتمتع بموهبة كبيرة وكرست صوتها كصرخة لحرية ومعاناة اللاجئين. إن هؤلاء الذين اخترنا تكريمهم هذه السنة ساعدونا كي نضيء ظلمتنا وزرعوا فينا الأمل في غد أفضل والثقة بأننا نسير على الدرب من أجل تحويل الأمل إلى حقيقة ملموسة على أرض الواقع. ‭{‬ رئيس المعهد العربي الأمريكي

مشاركة :