يتزامن قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي، مع تبدلات جيو-استراتيجية أساسية سيكون لها تأثير عميق في مستقبل أوروبا، ولا شك أن ألمانيا ستضطلع بدور بالغ الأهمية في صوغ رد فعل هذه الكتلة تجاه هذه التبدلات، ولكن من غير الأكيد أن يرلين ستقدّم القيادة الضرورية للتأقلم مع هذه التبدلات. لهذه التبدلات ثلاثة أوجه: الأول تراجع العلاقة عبر الأطلسي. من السهل تحميل ترامب مسؤولية تقويض الاتفاق الأمني المميز الذي جعل أوروبا قوية، وديمقراطية، ومزدهرة منذ عام 1945، ولكن حتى قبل أن يدخل ترامب البيت الأبيض، انتُقد الأوروبيون لعدم حملهم عبئهم الخاص داخل حلف شمال الاطسي، فقد اعتبروا الضمانات الأمنية الأميركية أمراً مسلماً به. لا تقتصر هذه المسألة على حاجة الحلفاء الأوروبيين إلى زيادة إنفاقهم على الدفاع، بل تشمل أيضاً كيفية تقبّل نهاية حقبة ما بعد عام 1945. تتطلب المؤسسات المتعددة الأطراف التي بنتها الولايات المتحدة، والتي ارتبطت أيضاً بتحديد الغرب المعايير والأعراف العالمية، إلى عملية تجديد شاملة. يكفي أن نتأمل حالة الشلل التي يواجهها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية. فلا يملكان القدرة على التعاطي مع دور الصين المتنامي أو سياسة روسيا الخارجية التخريبية في أوروبا والشرق الأوسط. تصب إدارة ترامب كل اهتمامها على ما تعتبره تحوّل الصين إلى منافس أمني وسياسي للولايات المتحدة، ولكن بدل أن يحاول ترامب إعادة تحديد علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا، انطلق في حرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي، إما بسبب صادرات السيارات الألمانية إلى الولايات المتحدة أو دعم طائرات إيرباص، لكن هذه الخطوات لا تعزز رد الغرب الموحد في وجه بكين. يعتقد بعض القادة الأوروبيين أن الرد المناسب على ترامب يشمل دفع الاتحاد الأوروبي نحو "الاستقلال الذاتي الاستراتيجية"، علماً أن هذا طموح غير منطقي تماماً مثل قدرة أوروبا على صوغ سياسة خارجية وأمنية جدية. ويساهم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بحد ذاته في إظهار مدى اعتبار الاستقلال الذاتي الاستراتيجي رداً ساذجاً على التغييرات التي تطرأ على سياسة الولايات المتحدة الخارجية والأمنية. يعود ذلك إلى أن ألمانيا لا تزال مترددة في منح أوروبا نوعا القيادة الذي يحتاج إليه الاتحاد الأوروبي اليوم. يقودنا هذا إلى التبدل الثاني الذي تشهده أوروبا: تراجع العلاقة الفرنسية-الألمانية، التي أهملها ائتلاف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اليميني الوسطي من حيث الأساس. كانت هذه العلاقة سابقاً محرك التكامل الأوروبي، علماً أن هذا ما يسعى إليه إيمانويل ماكرون، وخصوصاً في المجالين الاقتصادي والسياسي، منذ وصوله إلى سدة الرئاسة في فرنسا قبل سنتين تقريباً. حتى لو كانت ميركل تمقت وجهات نظر ماكرون، كان باستطاعتها بالتأكيد تقديم بعض الأفكار عن نظرتها إلى مستقبل أوروبا. في المقابل، بدا رد خليفتها المختارة أنغريت كرامب-كارينباور، التي ترأس اليوم الديمقراطيين المسيحيين، على اقتراحات ماكرون سطحياً ومهيناً. كان على ميركل نفسها الرد بصفتها المستشارة. قد يسر تراجع العلاقة الفرنسية-الألمانية بعض الحكومات الأخرى في الاتحاد الأوروبي، بما فيها بولندا وربما بعض الدول الأعضاء في أوروبا الشمالية. تعتبر هذه أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يمنح برلين وباريس المزيد من النفوذ في الاتحاد الأوروبي على حساب الدول الأصغر. ولكن إذا لم تتعاون برلين وباريس معاً لتمنح الاتحاد الأوروبي التوجيه الذي يحتاج إليه ليتفاعل مع التبدلات الجيو-استراتيجية على المستوى العالمي وليبدأ أيضاً بملء الفجوات الخطيرة في سياسة أوروبا الأمنية والدفاعية، فأي دول ستضطلع بهذا الدور إذاً؟ بات الاتحاد الأوروبي أكثر ضعفاً بسبب غياب التناغم بين برلين وباريس، فضلاً عن أن الشرخ الحالي في العلاقة الفرنسية-الألمانية يخدم مصالح روسيا والصين مباشرةً. أما التبدل الثالث، فهو التأثير الموهن الذي يتركه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أوروبا. طوال السنتين الماضيتين، استخوذت هذه المسألة على اهتمام قادة الكتلة، ولن يتبدّل الوضع خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. بالإضافة إلى ذلك، سينشغل الاتحاد الأوروبي بانتخابات البرلمان الأوروبي وكل المقايضات التي ستنجم عن تلك النتائج عند السعي إلى اختيار قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي الجدد. من الضروري اعتبار هذه فرصة لاختيار شخصيات قوية يمكنها تبوء أعلى المناصب في الكتلة. لكن الميل المتزايد في ألمانيا (وفي دول أعضاء أخرى) إلى الدفاع عن المصالح الوطنية بدل تقوية دور المفاوضية الأوروبية ووضع سياسة خارجية حقيقية متماسكة لا يُنبئ بالخير بالنسبة إلى مَن يريدون قادة حازمين يتمتعون بمصداقية عالية في المؤسسات في بروكسل. باختصار، تشكّل كل هذه التبدلات جزءاً من صنيع الاتحاد الأوروبي نفسه. أما إلقاء اللوم على مشاكل أوروبا على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ترامب فيشكّل محاولة للتملص من المسؤولية برميها على عاتق الآخرين. * جودي ديمبسي *«كارنيغي أوروبا»
مشاركة :