اقتناء ملابس العيد في أضيق الحدود. شراء لحم العيد في أضيق الحدود. الخروج للتنزه في أضيق الحدود. التحرك خارج المربع السكني في أضيق الحدود. توزيع الأضحية في أضيق الحدود. والعيد بأكمله في مصر هذا العام هو ترجمة فعلية لعبارة «أضيق الحدود»! التباسات سياسية، تربصات أمنية، تحركات شارعية، تخوينات اجتماعية، ضغوط اقتصادية، مخاوف أسرية، واستعدادات لاستقبال عيد الأضحى المبارك الذي يهل بعد أيام على المصريين وهم في حيرة من أمرهم: هل يحتفلون أم لا؟ مصر تحتفل هذا العيد بشيء من الاحتراس المشوب بالقلق. ففي مثل هذه الأيام التي تسبق العيد من كل عام، كانت شوارع وسط القاهرة التجارية ومراكز التسوق فيها وأسواقها الشعبية تعج بملايين العائلات التي تخرج لشراء مستلزمات العيد، بدءاً بملابس الصغار الجديدة، سواء كانت ذات ماركات عالمية بآلاف الجنيهات أم ذات ماركات محلية بعشرات الجنيهات، وأحياناً تلك المستعملة في أسواق «وكالة البلح». غير أن الحال تغيرت هذا العام، إذ تتحرّق المحال التجارية شوقاً لاستقبال عميل هنا أو مشترٍ هناك. وموقف باعة الملابس الجوالين الذين يكادون يجبرون المارة على الشراء غصباً... يلخص موقف عائلات مصرية كثيرة تحجم هذا العام عن شراء ملابس العيد. ويظل الإحجام متنوع الأسباب. فشربات، وهي عاملة منزلية وأم لثلاثة أطفال، قررت أن تكتفي بـ «أقل القليل» هذا العام بسبب غول الأسعار الذي لم يدع لها فرصة للتفكير ملياً. تقول إن شراء ثلاثة أطقم ملابس للأبناء يعادل راتب نصف شهر، ما يعني أن شراء كيلوغرامين من اللحم أكثر جدوى. ومع اختلاف الأسباب، تسير شهيرة، وهي مهندسة ديكور، على النهج ذاته، ممتنعة عن شراء ملابس العيد لابنتيها، بسبب ضغوط نفسية ومشاعر قلق عميقة تجعلها تتجنب الذهاب إلى المراكز التجارية خوفاً من أن تجد نفسها محبوسة في تظاهرة للإخوان، أو مضطرة إلى تمضية ساعتين أمام إشارة مرور مشلولة تحت وطأة مسيرة احتجاجية، هنا أو هناك. وبين شربات وشهيرة ملايين المصريين الذين يتأرجحون بين ترشيد نفقات ملابس العيد للأبناء بسبب الوضع الاقتصادي الصعب وإلغاء هذا البند برمّته... حتى إشعار آخر. الإشعار الأشهر المبشر بقدوم عيد الأضحى يظل مأمأة خروف وخوار أبقار مستعدة للقاء مصيرها، سواء من خلال مسيرة حاشدة لها لتعرض نفسها على راغبي التضحية أو وقفة صامتة في أركان الشوارع الجانبية لاستقبال المعاينين والمعاينات. حتى هذا الإشعار التاريخي الكلاسيكي تعرض خلال العام الحالي لهزة عنيفة، بعدما قلت أعداد المسيرات وتقلصت كثافة الوقفات تحت وطأة أسعار الكيلوغرامات المطروحة، والتي جعلت غاية المنى وأقصى الأمل للغالبية اقتناء جزء صغير من فخذ خروف هنا أو امتلاك جانب متواضع من كتف بقرة هناك. وأمام هذا التحول التكتيكي والتغير الاستراتيجي في لحوم الأضاحي، يفتك الغيظ بكثيرين ممن تطل عليهم مذيعة مغيبة أو يخترق مسامعهم طبيب خارج إطار الزمن ليحذرهم وينذرهم من مغبة الإكثار من اللحوم، والتمعن في دهون الفتة، وكوليسترول الفخذ، وهي الإنذارات والتحذيرات التي يستقبلها المستمعون والمشاهدون بكثير من «الحسبنة» وقليل من الدعوات لأن يأتي عليهم اليوم الذي يأخذون فيه تلك التحذيرات الطبية مأخذ الجد، وهو اليوم الذي يجدون فيه ما لذ وطاب من صنوف اللحوم المشوية على مائدة الطعام. وتظل مائدة الطعام هي الجامع الحصري للعائلات المصرية في عيد الأضحى، حتى وإن كانت موائد متواضعة أو متباعدة. فمائدة الطعام التي تعدها أم جابر كل عيد في إحدى قرى محافظة المنيا في صعيد مصر حيث اعتاد أبناؤها الخمسة الالتفاف حولها، بعدما نزحوا إلى العاصمة بحثاً عن الرزق، مهددة بالعصيان. فجابر وأشقاؤه يجدون في العودة إلى قريتهم في العيد مسألة بالغة الصعوبة هذه المرة. فقد توقفت حركة القطارات، وعزت سبل المواصلات الأخرى من «ميكروباصات» بالغت في الأجرة، مستغلة توقف سكك الحديد لأسباب أمنية، ما يعني أن مائدة طعام أم جابر ستقتصر على بناتها المقيمات في المنيا فقط. عيد الأضحى ومظاهره التي تتربص بها ضغوط اقتصادية وقلاقل أمنية ومشكلات نفسية، لم تسلم كذلك من تدخلات المشهد السياسي الشديد الالتباس. إذ أن مجموعة من أنصار «الإخوان» تكثف جهودها حالياً لتنشيط حملة «لا للأضحية»، وهي حملة تناصر الشرعية وتؤيد الشريعة عبر إقناع «الملتزمين» دينياً ممن يشترون الأضاحي ويوزعون لحومها على الفقراء، بالامتناع عن التضحية هذا العام لإلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بسوق اللحوم من جهة، وكوسيلة ضغط على الفقراء من مؤيدي «الانقلاب العسكري» على «الإخوان»...للارتماء مجدداً في أحضان الجماعة. عيد الأضحي في مصر هذا العام يأتي محملاً بطعم السياسة ومعبأً بضغوط الاقتصاد ومغلفاً بمخاوف الناس. مذاقه مرّ، لكنه يحمل رائحة تبشر بمستقبل أفضل. هو عيد بطعم «الإخوان» وعبق الثورة.
مشاركة :