لا يبدو أن شيئاً ينازع ارتفاع درجات الحرارة في السودان التي تصل أحياناً إلى ما يقرب الخمسين درجة مئوية، سوى المشهد السياسي المتفاعل هذه الأيام... فهما يتبادلان صدارة الأحداث، صعوداً وهبوطاً.السودانيون يرابطون ليل نهار أمام مقر قيادة الجيش، في ساعات الحر القائظ آملين في تغيير حضاري، أو أمام شاشات التلفزة في انتظار صعود الدخان الأبيض من الاجتماعات الماراثونية بين قادة المجلس العسكري الانتقالي الحاكم حالياً، ووفد تحالف «قوى الحرية والتغيير»، المظلة التي تقود حراك الشارع.ظل الجانبان في حال اجتماعات مستمرة ليل نهار، منذ 24 أبريل (نيسان) الفائت، بهدف الخروج باتفاق حول عدد من القضايا تشكّل ملامح الفترة الانتقالية وقادتها ومهامها وأولوياتها. لكن الطريق لتحقيق هذا الهدف لا يبدو مفروشاً بالورود، فالجانبان اللذان أعلنا مراراً وتكراراً توافقهما حول نقاط كثيرة، من بينها تسليم السلطة للمدنيين بالكامل بعد فترة انتقالية لم تحدَّد مدتها بعد، وتكوين مجلس سيادي مشترك وحكومة انتقالية من الكفاءات وهيئة تشريعية من مائة وخمسين عضواً، اختلفا بشدة حول التفاصيل.فقوى التغيير تريد تشكيل مجلس مدني بالكامل يشارك فيه بعض العسكريين، ثم تنازلت وقبلت بمجلس مشترك من 15 عضواً، (8 من المدنيين و7 من العسكريين)، في حين يتمسك المجلس العسكري بمجلس سيادي من 10 أعضاء يشارك فيه المدنيون بـثلاثة أعضاء فقط.وأمس رمى المجلس العسكري الانتقالي الكرة في ملعب قوى التغيير باتهامهم بالتردد في تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وهدد بحسم الفوضى. في حين رد «تجمع المهنيين»، وهو إحدى قوى التغيير، بأنه لن يسمح بطاغية جديد. وبات المشهد الآن مفتوحاً على كل الاحتمالات.يقول عضو تجمع المهنيين السودانيين الدكتور محمد يوسف المصطفى، إن قوى الحرية والتغيير أبدت مرونة كبيرة خلال جلسات التفاوض مع المجلس العسكري من أجل الوصول إلى اتفاق مُرضٍ حول تشكيل المجلس السيادي لكن العسكريين متمسكون بأن تكون كل السلطات عند المجلس. وأضاف: «إذا قبلنا بذلك لا توجد ضمانات؛ ويمكن أن يعمل المجلس العسكري على إفشال مجلس الوزراء ويقوم بحله في أي وقت بحجج كثيرة، وربما تكون واهية».ويقول المصطفى: «دفعنا بمقترح أن يكون المجلس السيادي مناصفةً بيننا حتى لا تكون للعسكريين سلطات واسعة يستخدمونها ضدنا، لكنهم رفضوا المقترح». وأكد أن قوى الحرية والتغيير ستواصل الاعتصام وتدرس في الوقت الحالي خطوات تصعيدية أخرى من بينها إعلان العصيان المدني والإضراب السياسي العام في كل البلاد، وسينجح مثلما نجح الاعتصام.من جانبه، يقول الصحافي المستقل فيصل محمد صالح، إن الأوضاع ماضية نحو مواجهة حادة وإن المجلس العسكري دفع برجله القوي نائب الرئيس محمد حمدان دلقو، ليتصدر المشهد، وعلى قوى الحرية والتغيير أن ترجع إلى الجماهير التي تحمل مواقف متشددة تجاه المجلس العسكري وترى أن لجنة التفاوض تتساهل في الحوار معه.ويتوقع فيصل أن يسيطر التشدد على الخطاب السياسي والإعلامي بين المجلس وقوى الحراك، وقد يذهب إلى أكثر من ذلك بأن تسحب قوى الحرية والتغيير الاعتراف بالمجلس العسكري وتتعامل معه كلجنة أمنية.واستبعد فيصل حدوث عنف أو أن تقوم القوات المسلحة بفض الاعتصام. ويضيف أن الأزمة أصبحت واضحة وقد تصل المواجهة إلى قمة التصعيد التي يحدث بعدها انفراج بتدخل الوسطاء، وطنيين أو إقليميين، للوصول إلى الاعتراف المتبادل.أما الأستاذ عثمان ميرغني، فيرى أن قوى التغيير لا تملك حالياً رؤية واضحة، مما أتاح الفرصة أمام المجلس العسكري لأن يتمدد في سلطاته. بل إن الطرف السياسي سعى لمطالبة العسكر بتنفيذ قرارات كثيرة ليست من صلاحياته، من بينها إقالة مدير التلفزيون، «وهو بذلك يمنحهم سلطات قد تكون مساوية لسلطات الرئيس المخلوع نفسه». ويرى ميرغني، وهو ناشط بارز ورئيس تحرير صحيفة «التيار» المستقلة، أن التأخير في اتخاذ القرار قد يمنح العسكر مساحة أكبر للتحرك وفرض شروطهم.التباعد بين الجانبين يبدو جلياً وينذر بعواقب وخيمة وسط تصعيد من الجانبين. ففي حين يهدد المجلس العسكري بالحسم، شرعت قوى التغيير بما سمته ترتيب الصفوف في ميدان الاعتصام، وإقامة المتاريس وحمايتها. كما ناشدت كل الثوار في أحياء العاصمة القومية والمناطق المجاورة الخروج إلى الشوارع وتسيير المواكب والتوجه إلى ساحة الاعتصام.ولا يزال آلاف المتظاهرين معتصمين أمام مقر قيادة الجيش بعد ثلاثة أسابيع تقريباً على الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير من السلطة في 11 أبريل، لم تثنهم حرارة الطقس، وبدأوا في التحضير لشهر رمضان من خلال تجهيز موائده وخيمه، وهم مستعدون كذلك للجلوس في المكان حتى عيد الأضحى، كما يقولون في هتافاتهم: «لو ما أصبحت مدنية قاعدين حتى عيد الضحية».
مشاركة :