قبل ثلاث ساعات، أو أكثر قليلا، كان المتابعون لوقائع إعلان الفائز بنسخة 2019 من الجائزة العالمية للرواية العربية أمام لائحة قصيرة، الكل ينتظر، وفي مقدمتهم المرشحون الستة، بدت الأصداء قبلها مريحة، ولم تخل من إطراء باد للائحة قصيرة قيل إنها منصفة؛ وكم كان الروائي المصري عادل عصمت بليغا حين صرح لإحدى الصحف، بأن اللائحة “تعيد الأمل للكتاب القادمين من الهوامش الثقافية”. وحين حدثني البروفيسور ياسر سيلمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة، عن مقال عبده وازن وما تضمنه من تفاصيل، تبادر إلى ذهني لحظتها، أن ثلاث ساعات فاصل زمني مربك، توقعنا أن تكون ردود الفعل متباينة، بعضها سيعيد التشكيك مجددا في الجائزة وأهدافها، وبعضها سيتناول مضمون مقال الإندبندت، وتحليلات كثيرة ستنصب حول النص الفائز “بريد الليل” لهدى بركات. افتراءات على اللجنةالمنطق يقول إن النص الفائز إذا كان مقبولا في لائحة النصوص الستة، قد لا يبقى كذلك إذا توج في المحصلة النهائية، ليس لأنه غير جيّد، ولكن لأنه سيقارن بباقي نصوص اللائحة القصيرة التي تتضمن روايات بمستويات تكاد تتماثل في قيمتها، والمنطق يقول كذلك إن من خيّب النص انتظاراتهم سيستسلمون مجددا لأحكام قاعدية مريحة حول الجوائز العربية جملة، وعن البوكر تحديدا، وأن الجائزة يمكن أن تنطوي على كل النوايا، إلا حسن التقدير للإبداع وإنصافه. لكن لننطلق من البداية، حيث ثمة مشهد ثقافي عربي متابع بالفعل للجائزة العالمية للرواية العربية، ولاختياراتها وما تفرزه من أسماء ونصوص يرفضها جزء من المشهد ويرتاح لها جزء آخر، بيد أنه متطلع دوما إلى حدث وتفاصيل بصدد النتيجة. وثمة أيضا نزوع هوياتي بالغ الضيق في التعامل من النتائج، يمكن أن تكون اللوائح جيدة بمنطق المواطنة، وستكون تافهة بالتأكيد لأنها متمركزة حول أقطار وأجيال وأساليب وأسماء. وحين نشر عبده وازن مقاله كان حذرا، ولم يهاجم لا الروائية (مواطنته) ولا النص، بيد أنه أهال قدرا من الشكوك حول الفوز، بسرد تفاصيل ما يعتقد أنه جرى. والحال أنه إذا نظرنا إلى كل المقدمات الواردة في المقال الاستباقي، يمكن الوصول إلى نتيجة أوّلية، تفيد بأنه حتى إذا كان عبده وازن مجرد مراهن حالفه التوفيق، فإن “التسريب” المزعوم قد ينظر له بوصفه حقيقة. غير أن ما يجعل المقال مجرد سردية مكتوبة بحذق، كونه يربط معلومة صحيحة بحيثيات خاطئة؛ وهنا سأسطّر وقائع ما جرى، دون الدخول في التفاصيل، فعلى خلاف ما ورد في المقال لم يكن الاجتماع صاخبا ولا متوترا ولا طويلا، كان هادئا بشكل ملحوظ ومريحا، ومن ثم لم يستغرق إلا أقل من ساعة، وعلى النقيض من زعم المقال لم تلجأ اللجنة إلى التصويت، بل كان ثمة توافق جماعي أفضى إلى الاختيار.صحيح أن رواية “بريد الليل” لهدى بركات لم تكن واردة في القوائم الأولى التي استلمتها اللجنة، لكنّ المحكمين ارتأوا إدراجها بناء على تحمس أحد الأعضاء للنص، الأمر الذي يسمح به قانون الجائزة، وكان ترشيح نص “بريد الليل” منطلقا من قناعة ترى أنه يستحق الترشيح ويجب أن يأخذ فرصته مثل النصوص الأخرى. حين كان التوازن في اللائحتين الطويلة والقصيرة بين الأقطار والأجيال والاختيارات الأسلوبية، فليس لأن الهدف هو البحث عن ترضية المشهد المتمركز حول مناطقية ظاهرة، بقدر ما كانت الغاية هي ترجمة ذائقة لجنة وتصورها عن حصيلة السنة الروائية، هكذا كان رد الفعل حول اللائحتين متوازنا كذلك، بصرف النظر عن قراءة النصوص ذاتها. وبناء عليه يستطيع القارئ أن يلتفت إلى ظاهرة عجيبة في تداول نصوص اللائحتين، فمن يصدر حكما إيجابيا على اللائحة الطويلة (ويفترض أنه بنى حكمه على قراءة كل نصوصها) لا يرى ضيرا في القول إنه حين قرأ نصوص اللائحة القصيرة صدم لأنها ضعيفة وسطحية ولم تكن شيئا مذكورا، بما لا يعني شيئا آخر سوى أنه كان كاذبا في حكمه السابق. كما أنه بدا طبيعيا أن يشرع في تقليب مواجع النص الفائز، من أفتى سابقا بجودة اللائحة القصيرة، فمقال عبده وازن، بات هو الفائز وليس “بريد الليل”. من هنا يجب أن نضع القارئ مجددا أمام سردية شديدة التعقيد في منطق هذه الجائزة، ولا يهم أن تنطوي على تناقضات بلهاء، فلجان التحكيم يمكن أن يكون بينها مشاركون روائيون، وقد يكونوا مرشحين في دورة ما للجائزة وقد لا يفوز أحدهم بها، فيتهمها ويهاجمها بعنف، ثم قد يُستدعى في سنة ما للتحكيم ويقول شيئا مختلفا يناقض قناعته القديمة، كما يمكن أن يكون أحدهم ناقدا أو صحافيا معتبرا، دائم الشكوى من النصوص الضامرة والعمياء التي تقترحها الجائزة، وذات يوم قد ينسى كل ذلك حين يُستدعى للتحكيم، ومن ثم يسترسل في الكتابة بنحو جيد أو متوازن، فـ”التوازن” هنا كلمة سر مفيدة، وتبدو لي موحية صدفة توازنات الجائزة مع اسم عبده وازن الذي كان عضوا محكّما وقبلها منتقدا غير مهادن، فصديقا ودودا، فخَاطف فرحة فائزة..، وفي النهاية يمكن أن تهاجم الجائزة بشراسة، وتقاطعها ثم تفوز أنت بها فجأة، وتكون النتيجة “منيحة” وهو ما جرى مع عزيزتنا بركات. كلام هدى بعد فوزها لم يكن، في اعتقادي، موفّقا، كانت فرحتها قد خبت، فتقدمت منطفئة للمنصة، لهذا أعذر انزلاقاتها الكلامية، التي حوّلت حتى من كان سعيدا بالنتيجة إلى مرتاب، ومن ثم فخلط استطرادات هدى بتطريزات عبده وازن وضع وجبة باردة على المائدة. لكن لنعد قليلا إلى “بريد الليل” النص الذي لا أتردد في وصفه بكونه من أكثر النصوص دقة واقتصادا وإقناعا في بنائه السردي، فهو يترجم مزاج أعضاء اللجنة المنحازين في أغلبهم إلى هذا الأسلوب في الكتابة، وممن لم يداروا في نقاشهم ضيقهم بتلك البدانة الروائية الشائعة، ولا أعتقد أنه توجد لجنة في العالم لا تسعى لكي تنتصر لقناعاتها في خاتمة المطاف. في الدورات السابقة اتهمت الجائزة بأنها مولعة بالأسماء الجديدة، بل ذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأنها أنشئت لتعلّم ربات البيوت كيف يقضين وقتا ممتعا مع كتاب مسلّ، لهذا لا أظن أن فوز “بريد الليل” قد أسعد أصحاب هذه القناعة، كما لم يفرح أيضا من مثلت لديهم تجربة هدى بركات نموذجا روائيا محظوظا. في المحصلة لقد سعدت بالتجربة وبالنتيجة، فهنيئا لهدى بركات، وهنيئا لعبده وازن سبقه الصحافي، وهنيئا للجائزة العالمية للرواية العربية الحفل الصاخب ككل مرة.
مشاركة :