تواصل البنوك المركزية العالمية تنفيذ أكبر هجمة تاريخية على شراء الذهب. وهذا مستمر منذ عام 2010. وأبرز الأسباب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008 وحالات عدم اليقين الجيوسياسي التي تجتاح العالم، إلى جانب الرغبة في تخفيف التعلق بالدولار، وفقاً لخبراء متابعين. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 34 ألف طن من المعدن الأصفر تنام حالياً في خزائن البنوك المركزية العالمية، أي ما يوازي 17 في المائة من إجمالي الذهب المستخرج على مر التاريخ. وبالأسعار السوقية الحالية لسعر الأونصة (الأوقية)، تبلغ قيمة تلك الثروة «النائمة» 1.4 تريليون دولار، أي ما يعادل الناتج الأسترالي أو الإسباني على سبيل المثال. فبعد عمليات بيع استمرت في مدى 20 سنة متواصلة، عادت البنوك المركزية إلى الشراء وبشراهة منذ 2010، حتى بلغت المشتريات في 2018 مستوى لم تبلغه منذ نصف قرن تقريباً. والطلب مضطرد وبشكل قوي وفقاً لخبراء السوق، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا الإقبال على المعدن الأصفر في وقت أطلت فيه العملات الرقمية والافتراضية برأسها؟ بكلام آخر، كيف يمكن تفسير تصرف كلاسيكي مارسه أجدادنا منذ القدم في موازاة جيل الألفية الذي لا يعرف إلا العالم الرقمي اللامحسوس؟ وما حاجة البنوك المركزية إلى الذهب؟ أو إلى هذه الكميات الهائلة منه؟ يقول خبير في هذا المجال: «في نهاية القرن العشرين، كانت شهية تلك البنوك مفتوحة على بيع الأونصات. في بلجيكا، وهولندا، والأرجنتين، وأستراليا، وكندا، وبريطانيا، وألمانيا، وسويسرا... وحتى صندوق النقد الدولي مارس البيع. وساهم في ذلك التخلص (أو التسييل) تقلبات أسعار الذهب في تلك الفترة، إلى جانب دخول عملة دولية جديدة قوية هي اليورو. وبعض الدول باعت ذهباً لأن عجوزات ميزانياتها زادت وأرادت الاستثمار في أصول تدر عوائد بدلاً من المعدن الثمين غير المدر لأي عوائد». فقد الذهب آنذاك بريقه، مما دفع بكتاب اقتصاديين في تلك الفترة إلى وصفه بـ«غير المفيد ولا النافع»، خصوصاً أنه لم يعد يدخل في معادلة السياسات النقدية ولا تغطية العملات. استمر الحال على هذا المنوال حتى اندلاع الأزمة المالية، فإذا بالتوجه يتغير بعمق لدى المؤسسات النقدية العالمية. في البداية أوقفت البنوك المركزية الغربية البيع، ثم بدأ الإقبال على الشراء من قبل الدول الناشئة التي زاد حضورها بقوة في تدفقات التجارة الدولية - وعلى رأسها الصين التي أظهرت نهماً في الطلب والتكديس، وأتي ذلك في مصلحة البلدان المنتجة بطبيعة الحال. وأظهرت أزمة 2008 أيضاً أن السيولة تشكل مخاطر عالية بالنسبة لكل المستثمرين كما بالنسبة للبنوك المركزية، فما ساد آنذاك في النظام المالي العالمي حال نسبياً دون الوصول الحر إلى الدولار؛ فتحول الذهب إلى ملاذ آمن. وتحاول البنوك المركزية في الدول الناشئة تنويع احتياطياتها بعيداً عن «أحادية الدولار»، وذلك لتخفيف الارتباط بالعملة الأميركية «ما أمكن»، ويدخل في ذلك اعتبارات جيوسياسية والتغير الهيكلي الحاصل في التجارة الدولية والرؤى الخاصة بمستقبل الدولار على المدى الطويل. وتوسعت دوائر الشارين للذهب لتشمل حالياً إقبالاً من تركيا والأرجنتين والهند وإندونيسيا والفلبين وتايلاند، التي تسعى بنوكها المركزية إلى هذا التنويع في الاحتياطيات لديها. هذا بالإضافة إلى الصين التي في خزائنها حالياً ما قيمته نحو 79 مليار دولار، وتزيد الشراء كآداة من أدوات زيادة الثقة بالعملة (اليوان). إلا أن اللافت والأبرز هو في روسيا. ففي عام 2018 اشترت موسكو 274 طناً من الذهب، وهذه الكمية غير مسبوقة، وحصلت في موازاة تسييل روسيا ما كان بحوزتها من سندات خزانة أميركية. ومع هذا التراكم الإضافي، تقترب روسيا اليوم من مخزون كان لدى الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره في عام 1990. وإذا استمر الشراء على هذا النحو حتى نهاية العام سيصل ما في روسيا إلى مستوى فرنسا التي لديها رابع أكبر مخزون من الذهب في العالم. لذا فإن روسيا والصين تدخلان حالياً نادي الدول التي لديها ألف طن وأكثر، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية التي تستحوذ وحدها على ربع مخزون الذهب العالمي، وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا. لكن يبقى مخزون الذهب في روسيا والصين أقل من مخزون الدولار بخلاف الدول الأخرى محل المقارنة.
مشاركة :