تقول دوائر سياسية إن التصعيد الروسي السوري في محافظة إدلب شمال غرب البلاد، يعود لاستشعار روسيا ملامح صفقة يجري وضع لمساتها بين الولايات المتحدة وتركيا، وقد تفكر روسيا في شن عملية واسعة في المحافظة لإعادة خلط الأوراق، رغم وجود تحذيرات دولية من مغبة اتخاذ هذه الخطوة، في ظل احتضان إدلب لأكثر من ثلاثة ملايين نسمة. وتشير الدوائر إلى أن هناك عدة مؤشرات تعزز مخاوف روسيا، من بينها محاولات الوفد التركي في التملص من أي التزامات في الجولة الأخيرة من المحادثات التي جرت في العاصمة الكازخستانية نور سلطان (أستانة سابقا)، سواء في علاقة بتشكيل اللجنة الدستورية أو في ملف إدلب. واقتصر الوفد التركي برئاسة مساعد وزير الخارجية، سادات أونال، على طرح مواضيع من قبيل تبادل الأسرى بين المعارضة والنظام وملف شمال شرق سوريا، الأمر الذي أثار غضب روسيا وانتهى ذلك الاجتماع دون تحقيق أي تقدم يذكر. وتلفت الدوائر إلى أن ما يثير شكوك موسكو أكثر هو تواتر الاجتماعات وعمليات التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة من جهة، وشخصيات من العشائر العربية في دير الزور شرق سوريا، كانت زارت أنقرة في الأيام الماضية. وتزامنت زيارة قيادات بعض العشائر إلى تركيا مع مظاهرات اندلعت خلال الأيام الماضية ضد الوجود الكردي في شرق البلاد، وعمليات بيع وحدات حماية الشعب الكردي نفط المنطقة إلى نظام الرئيس بشار الأسد الذي يعاني من أزمة وقود خانقة جرّاء الحصار الأميركي والعقوبات على إيران (المزوّد الرئيسي لدمشق). وزار الأربعاء المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري، أنقرة حيث التقى المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن وتركزت المباحثات بين الجانبين على الملف السوري. ولم يتم الإفصاح عن الكثير حول هذه الزيارة اللافتة من حيث توقيتها، واقتصرت المعلومات التي قدمتها وكالة “الأناضول” التركية على أن قالن وجيفري ترأسا اجتماعا لوفدي البلدين، وتناولا التطورات الأخيرة في الملف السوري. ونقلت “الأناضول” عن مصادر في الرئاسة التركية أن قالن أكد خلال الاجتماع على أولويات الأمن القومي للبلاد. وذكرت أن الوفدين تناولا مكافحة الإرهاب في شرق الفرات وعموم سوريا، بما في ذلك داعش وتنظيم وحدات حماية الشعب الكردي التي تصنّفها تركيا منظمة إرهابية، بزعم ارتباطها بحزب العمال الكردستاني الذي ينشط على أراضيها. ووفق الوكالة التركية فقد بحث الوفدان كيفية تطبيق خارطة الطريق حول منبج والحفاظ على اتفاق إدلب، وإيجاد حلّ سياسي للأزمة في إطار الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. وأشار المجتمعون إلى أنه سيتم إنهاء المخاوف الأمنية لتركيا عبر المنطقة الآمنة المزمع إقامتها في سوريا، وسيتم تطهير تلك المنطقة من كافة التنظيمات الإرهابية، ويقصد بذلك الوحدات الكردية، لأن عمليا لم يعد لداعش وجود هناك فقط خلايا نائمة مبعثرة في بعض النواحي. وكان سبق هذه اللقاءات اتصال هاتفي جرى الاثنين بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، شدد خلاله الطرفان على وجوب تعزيز التنسيق في الملف السوري.ويثير هذا الحراك الأميركي التركي قلق روسيا من حصول تفاهمات بين الجانبين، يستهدف قلب المعادلة القائمة في سوريا، ويقول مراقبون إن هذا الأمر قد يدفع روسيا للإقدام على خطوة تصعيدية خطيرة في إدلب، بغية خلط الأوراق مجددا. وكانت تركيا قد وقّعت مع روسيا اتفاقا في سبتمبر الماضي لخفض التصعيد في المحافظة الوحيدة التي لا زالت تحت سيطرة فصائل معارضة وجهادية، وقد جنّب ذلك الاتفاق الذي تم في سوتشي المطلة على البحر الأسود، إدلب عملية عسكرية واسعة كان يعدّ لها النظام السوري وحليفته إيران. ومنذ توقيع الاتفاق لم يُسجل تقدم فعليّ بل العكس تماما حيث سمحت أنقرة في ديسمبر الماضي لهيئة تحرير الشام بقيادة جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) بالسيطرة على كامل المحافظة، الأمر الذي أكد أن الغرض من توقيع تركيا الاتفاق هو كسب الوقت ومحاولة التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن إنهاء تحالفها مع أكراد سوريا. ولوحظ في الأيام الأخيرة تصاعد نبرة المسؤولين الروس حيال أنقرة وتعاطيها مع معظلة إدلب، حيث صرّح وزير الخارجية سيرجي لافروف إنه لا يمكن السماح بوجود الإرهابيين في إدلب إلى ما لا نهاية، وأن من حق الحكومة السورية التحرك لاستعادة “أمن مواطنيها”. وتزامنت تلك التصريحات مع تصعيد على الأرض، تكثف في الأيام الأخيرة، وأدى إلى نزوح الآلاف من المحافظة. وأفاد متحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الأربعاء بنزوح نحو 140 ألف شخص منذ فبراير في محافظة إدلب ومحيطها، بالتزامن مع بدء القوات الحكومية السورية وحليفتها روسيا تصعيدهما في المنطقة. وقال ديفيد سوانسون “منذ فبراير، نزح أكثر من 138.500 امرأة وطفل ورجل من شمال حماة وجنوب إدلب”، مشيرا إلى أن بين هؤلاء 32500 شخص فروا بين الأول والثامن والعشرين من أبريل.وانتقل النازحون إلى مناطق أخرى أكثر أمنا في محافظة إدلب وكل من حماة وحلب المجاورتين. وصعّدت القوات الحكومية منذ فبراير وتيرة قصفها للمنطقة وخصوصا جنوب إدلب والمناطق المحاذية، قبل أن تنضم الطائرات الروسية لها لاحقا. وأسفر التصعيد عن مقتل أكثر من 200 مدني، وفق الأمم المتحدة التي أشارت أيضا إلى أن القصف استهدف الأسبوع الحالي مدارس ومستشفيات. وأعرب سوانسون عن “قلق الأمم المتحدة البالغ تجاه التصعيد”. ونتيجة القصف الذي طال إحدى مدارسها، نزح غالبية سكان قرية القصابية في جنوب إدلب إلى مناطق أكثر أمنا. وفي ريف إدلب الجنوبي، حيث تقع القصابية، لوحظ الأربعاء الدخان الأسود يتصاعد عند أطراف إحدى القرى بعد استهدافها من قبل الطائرات الحربية، فيما كان يصرخ أحد الأشخاص “انتبهوا من الراجمة”. ودعت الولايات المتحدة الثلاثاء روسيا إلى احترام التزاماتها وإنهاء “التصعيد” في منطقة إدلب. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية مورغان أورتاغوس “ندعو جميع الأطراف وبينهم روسيا والنظام السوري إلى احترام التزاماتهم بتجنّب شنّ هجمات عسكرية واسعة والعودة إلى خفض تصعيد العنف في المنطقة”. ويستبعد مراقبون أن تلقى هذه الدعوات صدى لدى موسكو، بل إن المؤشرات تقول بأن المنطقة مقبلة على تصعيد خطير سيكون ضحيته المدنيين. ويشير هؤلاء إلى أن التصعيد الروسي هو أساسا للضغط على تركيا، خاصة وأن وضع الأخيرة الاقتصادي لا يستحمل موجة جديدة من النازحين.
مشاركة :