معجب الزهراني يكتب سيرته التي تعتبر سيرة جيل كامل

  • 5/3/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في الكتاب الأخير للأكاديمي والمثقّف السعودي معجب الزهراني الذي جاء بعنوان “سيرة الوقت: حياة فرد – حكاية جيل” تنساب ذكريات المؤلّف من قاع الطفولة السحيقة، وتجري جريان الماء في وديان الباحة جنوب السعوديّة، حيث نشأ الكاتب وترعرع وانفتحت عيناه على الجمال. في هذه الربوع يقول المؤلّف وهو يتحدّث عن قريته الزراعيّة “الغرباء”، كما خبرها في ستينات القرن الماضي “رغم الفقر المعمّم والعلل المقيمة والفتن الكثيرة إلّا أنّ للفرح أوقاته ومنازله وطقوسه… في هذه المناسبات كنا نتحوّل نحن الأطفال إلى عصافير تطير في كلّ الاتجاهات”. العودة إلى الطفولة بعد أكثر من نصف قرن ظلّ الزهراني طائرا يحلّق في كلّ الاتجاهات تكبر فيه الطفولة يوما بعد يوم حتّى حطّت به الرحال في باريس مدينة الأنوار التي تغنّى بها في “سيرة الوقت” تماما كتغنّيه بـ”الغرباء”. أليست باريس هي الغرباء ذاتها: المدينة القرية، أمّ المدائن والقرى التي ليست في الأمكنة واللّا أمكنة. قدر مؤلف “سيرة الوقت”، الصادر أخيرا عن المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء- بيروت، أن يكون غريبا، غريبا حتّى في غربته.ألم يُولد ويَنشأ في قرية الغرباء تارة تُنسب إلى جدّ مؤسّس يبدو أنّه كان متصوّفا جاء من بعيد فأنجبها من صلب غربته وطورا إلى “بيضة غراب” أسطوريّة فقّست السلالة التي ينتمي إليها الكاتب، هذا إذا لم تكن –وهي رواية ثالثة لا يستبعدها المؤلّف- أن يكون الجدّ المؤسّس قد ارتكب خطيئة ما فرحل عن بلده وضرب في الأرض حتّى حلّ بالمنطقة الخضراء، فطاب له المقام فيها فلم يتبق -يقول الزهراني- لجدّي الشيخ من هويّة حقيقيّة سوى غربته. وما العجب في ما يقوله الكاتب في ذلك: ألسنا كلّنا بني آدم نحمل في جيناتنا آثار الخطيئة الكبرى والخطايا الصغرى المترتّبة عنها وما أكثرها. إذا كان ذلك كذلك فلن يكون كاتبنا إّلا خير خلف لأحسن سلف. نعم معجب الزهراني سلفيّ إلى حدّ النخاع ولكنّ على طرف نقيض مع السلفيّة التي عهدها في السعوديّة طالبا وأستاذا جامعيّا بمكوّناتها المختلفة، بما في ذلك من يُسمّون بالإخوان المسلمين. وهنا يستحضر مؤلّف الكتاب أحدهم ألا وهو المصري أحمد جريشة أستاذه في الجامعة الذي كان يقول في الفصل إنّ كلّ مَن يخالف مبدأ الحاكميّة فهو كافر. سيرة جيلاتُّهم الزهراني طالبا وأستاذا جامعيّا بـ”العلمانية” كما فهمها بعض المسلمين خطأ باعتبارها معادية للدين وإن كانت في الحقيقة حامية للدين من السياسة، هذه العلمانية التي قبل أن يقف على معالمها من خلال دروس أستاذه في جامعة الملك سعود المغرم بالثورة الفرنسيّة رشاد الخاطر، سفير دولة قطر لاحقا والذي أنهى حياته بنفسه مثل خليل حاوي قرفا من البؤس العربي المعمّم والمؤمّم مع اجتياح إسرائيل لبيروت سنة 1982، وقبل أن يتذوّق حلاوة ثمارها مقيما في فرنسا كان قد خبرها في الحقيقة قبل ذلك طفلا في قريته، قبل أن يئدها كما يقول التشدّد الديني الذي كان الناس البسطاء يقاومونه بالأشعار والحكايات والنكات. “خلق كيانا وطنيا ودولة مركزيّة قويّة وحّد فيها بين مناطق واسعة متباعدة جغرافيّا وثقافيّا تحت راية واحدة”، ومن ثمّة فهو يرى أنّه ينتمي إلى دولة لها تقاليد راسخة في الحكم وإدارة الاختلاف فحمته من المتطرّفين الدينيين. يقول ذلك وهو يستحضر الرعب الذي كان يعيشه في فرنسا زملاؤه من الطلّاب العرب الذين ينتمون إلى بلدان يحكمها العسكر بشعارات تقدّمية من مخابرات بلدانهم، وخشيتهم من الملاحقة والتصفية الجسدية لمجرّد رأي عابر أو فكرة طائشة أو حلم لشاب صغير لا يروق لحاكمه. وممّا يلفت الانتباه بشدّة في “سيرة الوقت” هو انتصار الكاتب للأنثى. فالزهراني يتيم الأب منذ طفولته قد خبر بالممارسة كيف تتحوّل الأنثى إلى آلهة للتضحية. مات الأب وترك بيتا عامرا بالأطفال وبأرملتين: أمّه وضرّتها، بل قل رفيقتها وصديقتها التي ترمّلت دون الثلاثين ورفضت الزواج، ويقول فيها “إنّها لا تقّل كفاءة وعفّة عن أكثر الرجال جدّية ونبلا”. ما العمل تتساءل وأنت تقرأ ما يقول، فإذا بالإجابة تأتيك سريعا “تقاسمت السيدتان الشابتان المسؤوليات بشكل عفوي وفعّال جدّا. نهضت أمّي بدور تنظيمي جعلها تدبّر البيت طوال النهار، وتطوف الأسواق الشعبيّة من وقت لآخر لتبيع الفواكه أو عقد البرسيم والشعير وما تيسّر من الدجاج أو الغنم… وتولت رفيقتها مشقات العمل الزراعي فأبدت عليه صبرا وإتقانا يحسدها عليها كثيرون. وكم أكبرتها حين علمت لاحقا أنّها رفضت الزواج رغم شبابها الغضّ”. لا شكّ أن “سيرة الوقت – حكاية فرد وجيل” سيرة لكلّ الأوقات ينقل لنا عبر سيرة مؤلّفه ما اعتمل وما يزال ليس في السعوديّة فقط، وإنّما في العالم العربي من حراك ومدّ وجز بين القوى التي تشدّ إلى الماضي والقوى التي تدفع إلى المستقبل.

مشاركة :