يجلس محمد النويري (69 عاما) على كرسي صغير داخل سوق الرشيد الذائع الصيت وسط العاصمة طرابلس، حيث ينصب يوميا طاولته الخشبية لعرض بعض البهارات والثوم المغلف، مصدر رزقه وأهل بيته، مترقبا قبل أيام من بدء شهر رمضان، الزبائن الذين أنهكتهم سنوات من الأزمات والحروب. ويقول محمد النويري وهو يغلف الثوم بأكياس، “أصابني الإرهاق وكثيرون مثلي. نقاوم عاما تلو آخر في ظروف استثنائية والحرب تتربص بنا، كلما نشعر ببصيص أمل، يطفو للسطح صراع عسكري بين الليبيين”. ويضيف، “أنا فخور بإطعام أولادي من الحلال. منذ سنوات، أواظب على القدوم هنا، لإعالة أسرتي المكونة من عشرة أفراد..، لدي أولاد في الجامعة وابنة معاقة بدنيا”، مضيفا “أنا مصاب بالسكري وأشتري دوائي بشق الأنفس”. واعتاد الليبيون على تنويع مائدتهم الرمضانية من الشوربة ومقبلات أخرى مثل البراك الذي لا يغيب عن عائلة، إضافة إلى أطباق أخرى مثل الكيما ورشتة الكسكاس، والضولمة والمبطن. وفي السهرة لا تغيب الحلويات التي تصاحب فنجان القهوة أو الشاي مثل لقمة القاضي والكنافة والسفنز والزلابية والمخاريق، وفي السحور تكون المحلبية طبق التحلية، لكن ارتفاع الأسعار الذي شهدته الأسواق قبل قدوم شهر الصيام جعل الليبيين يتخوفون من الأيام القادمة والتي سترتفع فيها الأسعار أكثر مما هي عليه اليوم.ووصل سعر الكيلوغرام الواحد من الفلفل الأخضر إلى 10 دنانير وسعر الكيلوغرام الواحد من الطماطم إلى 5 دنانير وسعر الكيلوغرام الواحد من البصل إلى 6 دنانير وسعر الكيلوغرام الواحد من البطاطا إلى 4 دنانير وتعتبر هذه الأسعار مقارنة بالشهر الماضي مرتفعة جدا. وقال صاحب محل لبيع الخضروات، إن ارتفاع أسعار الخضار في هذا الوقت نتيجة للاشتباكات الدائرة في جنوبي طرابلس وإغلاق الطرقات المؤدية إلى سوق الأحد المورد الرئيسي للخضار وتكبدنا قطع مسافات طويلة للحصول على احتياجاتنا من الخضروات لزبائن المحل. ووصل سعر اللحوم بين 30 و40 دينارا للكيلوغرام الواحد حسب نوعية اللحم المطلوب سواء كان اللحم محليا أو مستوردا، ويتوقع أحد تجار اللحوم ارتفاعا في أسعار اللحوم بمختلف أنواعها مع قرب شهر رمضان، وذلك بسبب النقص الشديد الذي يشهده عدد من المستودعات الخاصة بتربية المواشي. وقال مواطن آخر، إننا لا نستطيع شراء احتياجاتنا من الخضار بهذه الأسعار الجنونية التي فاقت كل الحدود المعقولة خصوصا وأن السيولة المالية التي استطعنا الحصول عليها بعد انقطاع 5 أشهر ذهبت إلى سداد الديون السابقة. وتتجوّل منال خيري (45 عاما) داخل سوق البقوليات، مشيرة إلى أنها تأتي كل عام إلى هذا المكان لشراء بعض الحمص والعدس ومستلزمات رمضانية خاصة. وغالبا ما يشهد هذا السوق زحمة في مثل هذه الأوقات، لكن الحال تغير بفعل الظروف الاقتصادية التي تمر بها ليبيا، وصعوبة الحصول على السيولة النقدية من المصارف. وتشكو منال، وهي أم لأربعة أطفال من ارتفاع الأسعار، “ثلاثة أيام أمضيت خلالها ساعات أمام المصرف”، مشيرة إلى أنها تمكنت فقط من سحب 500 دينار (360 دولارا). وتقول إن هذا المبلغ لا يكفي لسدّ احتياجات عائلتها سوى الأسبوع الأول من شهر رمضان. وترفع يدها صوب السماء قائلة “أرجو من الله أن يجمع شمل الليبيين، لأننا الآن نقتل بعضنا وثروات بلدنا تسرق في وضح النهار”. واعتادت الأسر الليبية الاحتفاء برمضان، من خلال طلي المنازل، فيما تشتري ربات البيوت أوانيٍ جديدة وتعمدن إلى تغيير أثاث غرفة الصالون، لكن هذه العادات التي كانت تفرح الليبيين ستغيب هذا الموسم لضيق ذات اليد. ويشير التاجر عبدالله الشايبي، إلى أن المعارك التي يشهدها محيط طرابلس “باتت مزعجة ومقلقة، وجعلت الآلاف من الناس يتركون منازلهم”. ويقول، “ألاحظ أن شريحة واسعة من الليبيين عاجزة عن شراء أبسط مقومات الحياة، بعض العائلات تعدّ تأمين وجبات الطعام إنجازا، وهو أمر لم نعتد عليه في بلاد غنية بالنفط”. ويضيف، بينما يقف أمام محل لبيع التمور، “بلادنا مشهورة عالميا بإنتاج التمر، نجد أنفسنا عاجزين عن شرائه بعد ارتفاع ثمنه لضعفين”. ثم يتساءل “هل يمكن تخيل مائدة الليبيين في رمضان خالية من التمر الذي يمثل رمزية وروحية وقت الإفطار؟”. وتعجز المصارف التجارية الخاصة والحكومية عن توفير السيولة النقدية للمواطنين، على الرغم من برنامج إصلاحات اقتصادية أقرته حكومة الوفاق العام الماضي. وتسببت المعارك الدائرة عند أطراف طرابلس بحركة نزوح كبيرة، جزء كبير منها في اتجاه الأحياء الداخلية للعاصمة، الأمر الذي فاقم معاناة السكان مع قرب حلول شهر رمضان.ويقول مالك الذي قصد السوق لشراء حاجياته، “الحرب أخرجت الآلاف من سكان جنوب طرابلس من منازلهم، وغادر معظمهم مسرعين دون التمكن من أخذ حاجاتهم الأساسية، ما جعل الأعباء المالية تثقل كاهلهم. مع رمضان سيواجهون أوقات قاسية لتأمين حتى وجبة الإفطار”. ورأى أن رمضان هذه السنة “سيكون الأشد والأقسى” منذ أعوام على سكان طرابلس. وتخطى عدد النازحين من مناطق الاشتباكات 45 ألف شخص، بحسب وزير الدولة لشؤون النازحين والمهجرين بحكومة الوفاق يوسف جلالة. وفتحت الحكومة مدارس عامة لاستضافة عدد كبير من النازحين، فيما فضّل غيرهم النزول عند أقارب لهم، أو يقيمون في مخيمات مستحدثة. وحذرت مساعدة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا ماريا دو فالي ريبيرو الأحد الماضي من “خطورة” الأوضاع الإنسانية في طرابلس، مشيرة إلى احتمال تدهورها. وحاولت حكومة الوفاق استباق رمضان بمحاولة تطمين المواطنين. ونقل نائب رئيس لجنة الطوارئ التابعة لحكومة الوفاق عثمان عبدالجليل، بحسب بيان رسمي، عن وزارة الاقتصاد تأكيدها، “أن جميع السلع الأساسية متوفرة وبشكل جيد جداً، وتغطي كافة احتياجات المواطنين طيلة شهر رمضان المبارك وما بعده”. ودفعت الأزمة بعض الجمعيات الخيرية إلى إطلاق مبادرة “الإفطار الجماعي”. وقال مفتاح إدريس الذي يرأس جمعية خيرية في طرابلس، “قررنا مع بعض الجمعيات المساهمة في التخفيف على النازحين وعلى البلديات التي تتحمل ضغطا هائلا مع استمرار حركة النزوح، وقررنا إطلاق مبادرة الإفطار الجماعي”. وأوضح أن “الإفطار الجماعي ليس جديدا في ليبيا. كل رمضان توجد مثل هذه المبادرات. لكن هذه المرة مختلفة لأننا سنقيم إفطارا جماعيا في بعض مقرات ومخيمات النازحين”، معربا عن أمله في أن يترك ذلك “أثرا طيبا نفسيا على النازح ويخفف الأعباء المالية عن كاهله”.
مشاركة :