تركيا تغامر بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص

  • 5/7/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أثارت تركيا جدلا بإعلانها يوم الجمعة الماضي إجراء عمليات تنقيب عن الغاز بواسطة السفينة “الفاتح” وثلاث سفن مساندة لوجستية، حتى 3 سبتمبر المقبل، في منطقة تبعد 40 ميلا بحريا إلى الغرب من شبه جزيرة أكاماس، و83 ميلا بحريا من السواحل التركية، وتقع داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري لقبرص. وواجه الإعلان التركي انتقادات شديدة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليونان وقبرص وروسيا ومصر، وغيرها، لانتهاكه المياه الإقليمية لدولة ذات سيادة، وجاءت غالبية ردود الأفعال سلبية، وبصورة تضع على عاتق أنقرة المزيد من التحديات. رهان خاسر تأتي الخطوة التركية في محاولة لدخول السباق المحموم بين شركات الطاقة العملاقة، مثل إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية وإكسون موبيل الأميركية، لاستخراج الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، في كل من مصر وإسرائيل وقبرص، بينما تقف أنقرة عاجزة عن سد فجوة الطاقة الهائلة لديها، والتي تعد واحدة من أكبر نقاط الضعف التي تواجه الرئيس رجب طيب أردوغان. وتشبه تركيا معظم الدول الأوروبية، التي تستمد حاجتها في هذا المجال بشكل رئيسي من روسيا، وتعتمد على الغاز الطبيعي في إنتاج نصف احتياجات الكهرباء. وتزايدت حمى التنقيب عن الغاز والنفط مع رفع هيئة المسح الجيولوجي الأميركية تقديراتها لكمية احتياطيات الغاز الطبيعي الموجودة في منطقة حوض البحر المتوسط إلى 340 تريليون قدم مكعبة. كانت هذه الاحتياطيات تقدر منذ 6 أعوام فقط، بنحو 122 تريليون قدم مكعبة؛ أي أن الكمية المحتمل وجودها تصل إلى عدة أضعاف أمثال ما تم الإعلان عن اكتشافه حتى الآن. وما ضاعف من معالم الأزمة لدى الأتراك أن شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية اكتشفتا في العام الماضي حقل كاليبسو للغاز الطبيعي قبالة ساحل قبرص، باحتياطيات تقدر بحوالي 6-8 تريليون قدم مكعبة. وأعلنت شركة إكسون موبيل الأميركية في فبراير الماضي عن اكتشافها خزانا عملاقا للغاز الطبيعي في حقل جلاوكوس-1، قبالة شواطئ قبرص في البلوك رقم 10، بواقع 5-8 تريليون قدم مكعبة من الاحتياطيات المقدرة. وتخطط شركة البترول الوطنية التركية للقيام بأنشطة الاستكشاف في المنطقة المتنازع عليها مع قبرص، بمرافقة سفن البحرية التركية. وحصلت الشركة في أبريل عام 2012 من حكومة القبارصة الأتراك، على امتياز للتنقيب عن الموارد الهيدروكربونية في شمال قبرص، بما في ذلك المياه الإقليمية، ما يتداخل مع عدد كبير من البلوكات التي طرحتها نيقوسيا في جولة المناقصات الخاصة بها، وتتداخل أيضا مع منطقة تابعة لجزيرة رودس اليونانية. بدأت الشركة التركية للبترول بالفعل أعمال الحفر بحثا عن الغاز والنفط في شمال قبرص، إلا أنها لم تحقق تقدما ملموسا، ما جعل أنقرة تلجأ إلى الاعتداء على الحقوق القبرصية، في محاولة لجس النبض ومعرفة الخطوات التي يمكن أن تتبناها الفترة المقبلة للحصول على جزء معتبر من غاز شرق المتوسط. تزامنت التحركات التركية أخيرا مع أعراض “هستيريا” نتيجة كارثة اقتصادية مروعة، حيث يعاني الاقتصاد من متاعب خطيرة، ويعيش حالة ركود منذ أواخر العام الماضي للمرة الأولى منذ 10 سنوات، وبلغت نسبة التضخم نحو 20 في المئة، والغذاء والدواء أصبحا أكثر تكلفة بكثير، وتتعرض الليرة لضغوط شديدة. ويتمثل الزلزال الأخطر في قيام تركيا بتسديد نحو 18 مليار دولار كقروض بالعملات الأجنبية خلال الشهور الـ12 المقبلة.يراهن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاليا على ثروات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط لتجاوز أزمته الاقتصادية، ولضمان البقاء في السلطة، ويحلم بأن تصبح بلاده ممرا لتصدير الغاز الطبيعي المكتشف إلى أسواق الغاز الأوروبية، في ضوء أن هذه الأسواق ربما تكون وجهة مثلى لتصدير عوائد الاكتشافات في المستقبل.ما يزيد الأمور تعقيدا في ثروات الغاز بشرق المتوسط، أن تركيا منبوذة في معظم أطر التعاون الإقليمي القائمة في هذا المجال. ففي منتصف يناير الماضي، أطلقت مصر وإسرائيل واليونان وقبرص والأردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية منتدى غاز شرق المتوسط، بهدف تأسيس منظمة دولية تحترم حقوق الأعضاء بشأن مواردها الطبيعية بما يتفق مع مبادئ القانون الدولي، ودعم الجهود للاستفادة من احتياطياتهم واستخدام البنية التحتية وبناء بنية جديدة. ولم يتم توجيه الدعوة إلى أنقرة للمشاركة في المنتدى، بسبب ممارستها المزعزعة للاستقرار في المنطقة. فهي لم تعترف بمطالبات قبرص الخاصة بمنطقتها الاقتصادية البحرية، بحجة أن أجزاءً منها تندرج في اختصاص تركيا أو القبارصة الأتراك. كما لم تعترف أيضا بجميع الاتفاقيات التي توصلت إليها قبرص لترسيم حدودها البحرية، بما في ذلك الاتفاقيات التي توصلت إليها مع مصر وإسرائيل، والتي تم بناء عليها تحديد المناطق الاقتصادية لهذه الدول في شرق البحر المتوسط. وعدلت القوات البحرية التركية قواعد الاشتباك لقواتها في شرق البحر المتوسط، حيث سمحت لوحداتها البحرية بتطبيقها كاملة دون الرجوع إلى القيادة، والبدء في إرسال سفن البحث والتنقيب إلى المياه الإقليمية القبرصية، برفقة سفن حربية لحمايتها. وفي هذا السياق، دأبت تركيا على التحرش بسفن التنقيب القبرصية، واعترضت بحريتها العام الماضي عددا من سفن الحفر الإيطالية قبالة قبرص. وأطلقت سفن الحفر الخاصة بها لاستكشاف الغاز الطبيعي داخل مياه قبرص الإقليمية، دون أن تكون لذلك أسانيد قانونية واضحة ومعترف بها دوليا. وتؤكد الكثير من تقديرات الخبراء أن رهان الرئيس التركي الحالي على موارد الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، سيكون خاسرا في المدى القصير، بعدما قدم السيناتور بوب مينينديز ورفيقه ماركو روبيو مشروع قانون إلى الكونغرس الأميركي بعنوان “الأمن والشراكة لشرق المتوسط” ​، ويسعى إلى رفع حظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ عقود. ويشير المشروع إلى استعداد دوائر سياسية وعسكرية واقتصادية في واشنطن للمزيد من عزل تركيا إذا استمرت في صفقة أس 400 مع روسيا، أو تمادت في السياسات المعرقلة لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. عصر جديد يوفر الموقف التركي من تطوير الاكتشافات الغازية في شرق البحر المتوسط إشارة لمن يبالغون في التفاؤل بشأن إمكانية بزوغ عصر جديد للطاقة في منطقة شرق المتوسط، تؤكد أهمية التعاون الاقتصادي في هذا المجال مع الاكتشافات الهائلة المتعلقة بالغاز الطبيعي في هذه المنطقة. وإذا أضيفت إلى ذلك إمكانية أن تسعى بعض الدول (إيران وقطر مثلا) لزيادة عدم الاستقرار والبحث عن سبل للفوضى من خلال دعم الحركات الإرهابية لعرقلة تصدير الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، بسبب التأثير السلبي على مصالحهما الحالية والمستقبلية في تجارة الغاز، يمكن تفهم مدى التعقيدات التي تلف البيئة الإستراتيجية لتطوير وتصدير الغاز الطبيعي من المنطقة في المدى المنظور.تؤدي مثل هذه التحركات إلى زيادة احتمال المواجهة العسكرية بين دول تقع في منطقة شرق المتوسط، خاصة مع ميل الأتراك إلى استخدام كافة الوسائل الممكنة، بما فيها التلويح بالخيار العسكري، من أجل الدفاع عما يعتقدون أنه “حقوق” لهم في هذه الاكتشافات. وإذا استمرت توجهات تركيا على ما هي عليه، وهو الغالب، ستزداد عزلة أردوغان وتتصاعد أزمة بلاده الاقتصادية، مع الاتجاه نحو تعزيز ملامح التعاون الإقليمي في شرق المتوسط، كوسيلة لتحقيق عوائد إيجابية سريعا، وكأداة لردع أنقرة في المدى القريب. وهنا تظهر أهمية دفع وتشجيع منتدى غاز شرق المتوسط، باعتباره التجمع الحيوي الذي يخدم مصالح دول المنطقة المشاركة فيه، وفقا لمبادئ القانون الدولي، واحترام الاتفاقيات الدولية.

مشاركة :