دشن أمير المدينة المنورة فيصل بن سلمان بن عبد العزيز، الأسبوع الماضي، مبادرة القيم والأخلاق (خير أمة) لتكون خريطة طريق عام كامل لإشراك مجتمع منطقة المدينة المنورة ومؤسساته وزوّاره، في تعزيز وترسيخ القيم الأخلاقية وبناء الإنسان اجتماعيا وثقافيا، ولا غرابة في أن تنطلق هذه المبادرة، بعنوانها الكبير الجامع «خير أمة» من المدينة المنورة، منبع الإشعاع الذي عم الكون ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وينشر قيم الرحمة والصدق والأمانة والعدل، التي جاء بها نبي الرحمة، صاحب الخلق العظيم، فمن المدينة المنورة انطلقت طلائع الخير ينشرون قيم الدين ومبادئه، ويشكلون، بأخلاقهم، قبل أقوالهم، سلوك الأفراد وينظمون المجتمعات ويضبطون العلاقات بين المختلفين والمتفقين، واليوم حين يبادر أميرها الشاب، إلى رفع شعار «خير أمة» فهي إشارة واعية لقيمة استثمار «الميزة النسبية» للمكان، بكل دلالاته وإشاراته وتأثيرها في الوعي الجمعي، وأهمية توظيف هذا التأثير في إصلاح شؤون المجتمع والإسهام في الحفاظ على الصورة الذهنية النقية لهذه البلاد التي أكرمها الله بما يغبطها عليه محبوها، ويحسدها عليه مبغضوها، ولهؤلاء نقول: موتوا بغيظكم. ويبدو «توقيت» إطلاق المبادرة، مدعاة الاستجابة لها والتفاعل مع أهدافها ومراميها، فالناس تستقبل شهر الصيام، مع ما يصاحبه من استعداد روحي وعقلي للدخول في «موسم» تتجلى فيه قيم الدين ومبادئه ومظاهر أخلاق أهله، حين يبادرون إلى ساحات الخير، يصلون الأرحام، يرأفون بالقريب ويرحمون البعيد، يتسابقون إلى دور العبادة، يرتوون من نبع القرآن، وتخشع أرواحهم بالإصغاء إلى بيانه، فتطمئن القلوب وتخضع الجوارح، وتمتد الأيدي، بذلا، للمال وعطفا على الفقراء وأهل الحاجة. ومبادرة تعزيز القيم، تستهدف غالبية شرائح المجتمع: أساتذة الجامعة والمعلمين، الطلاب من الجنسين، الموظفين، في جميع القطاعات، رجال الأمن، والمواطنون جميعهم رجال أمن، المثقفين والإعلاميين وأئمة المساجد، وحتى المعتمرين وزوار المسجد النبوي، وهي ليست قاصرة على هذه الفئات، بل تتجه إلى المجتمع عامة، بكل أفراده، لتزيد من مساحة ثقافة التطوع، وتعمق الوعي بأهمية الخدمة العامة، ومجموع المستهدفين هؤلاء نلقاهم، هذه الأيام، في نطاق التنفيذ: الجوامع والمساجد، المستشفيات والمراكز الصحية، مراكز الأحياء والحدائق العامة، الأندية الرياضية، حيث تجمع الشباب، القوة الحيوية في المجتمع، المجمعات التجارية، التي تنشط في ليالي هذا الشهر، والملتقيات الرمضانية، بيئة (زمانية ومكانية) تكفل للمبادرة الكثير من أسباب النجاح إذا توافر لها الإعداد الجيد والأسلوب المناسب لكل فئة، والقنوات القادرة على إيصال المضمون وتحفيز المتلقي ليكون «جزءا» من المبادرة، وهي ليست «تظاهرة موسمية» تنتهي بانقضاء الموسم، بل هي خطة عمل تمتد لعام كامل، ومرجو منها أن تترك أثرها الإيجابي الفعال على قيم المجتمع، لتبقى حية متجلية في السلوك والعمل والتواصل بين الناس على مختلف مكوناتهم، وتشترك في الإعداد لهذه المبادرة، وتنفيذها، القطاعات الحكومية والأهلية، ومن المتوقع أن تبلغ مداها، مع بداية العام الدراسي المقبل، وهذا يعطي المشاركين فسحة كافية من الوقت، للإعداد الجيد، وفحص المحتوى والتثبت من صلاحية الأدوات واختيار الآليات وضبط الجداول لمنع تعارض النشاطات المتشابهة أو المتكاملة، والمعلومات المتوافرة، حتى الآن، تشير إلى أن الأمانة العامة للمبادرة قد صممت البرامج والفعاليات «وفق أسس علمية ومعايير محكمة وآليات متطورة، قام بهندستها وصياغتها مجموعة كبيرة من ذوي الخبرة والاختصاص في كافة المجالات» إلى جانب مجموعة من المؤشرات الداعمة للجهات المشاركة وتطبيق معايير الجودة والحوكمة. وهذه المبادرة التي انطلقت من المدينة المنورة، استشعارا بأهمية المكان والزمان، يمكن أن تكون نموذجا يقتدى به في مناطق أخرى من بلادنا، مما يضع مسؤولية «الريادة» على المسؤولين عن التخطيط لها وتنفيذها ويضاعف التوقعات ويدعو مجتمع منطقة المدينة المنورة، وأبناءها المنتشرين في كل أرجاء الوطن، إلى الإسهام في إنجاح المبادرة وتعظيم انعكاسها على المجتمع حتى تكون تجربة قابلة للتطبيق في أماكن أخرى، وإن مع ما يناسب المكان من خصوصية. والمبادرة، بعنوانها ودلالاته وظلاله ومكان انطلاقها، تطرح سؤالا موحيا موغلا في تاريخ هذه الأرض، متغلغلا في وجدان أهلها: كيف نبقى «خير أمة» بقيمنا وأخلاقنا؟ سؤال يبدو بسيطا، محدود الكلمات، واضح الصياغة، لكن محاولة الإجابة عليه، فيها من التفاصيل بقدر ما في الحياة من نشاط غير محدود، وما بين المبادئ والمصالح من التعارض والتباعد واختلاف الوسائل، ولا تستعصي محاولة الإجابة، إذا حددنا ماذا نريد، ووفرنا الأسباب، وصدقنا في التمسك بما يوصلنا إليه، وتصير محاولة الإجابة صعبة معقدة، تبدو دونها العقبات والمنعطفات وركام من الأفكار والسلوك، إذا غامت الرؤية وغابت الإرادة أو وهن التصميم، ومن حسن الدلالة أن هذه المبادرة، ومثيلاتها على امتداد الوطن، تؤكد تمسك هذا المجتمع بالأصيل والنقي من قيمه وأخلاقه وأن الاجتهادات لتعزيز حضورها وتأثيرها، وإن اختلفت، دلالة على الحيوية والرغبة في إبقائها حية نابضة قادرة على العيش والتفاعل مع معطيات التطور وعدم الانفصال عن مسيرة الحضارة البشرية، وهذا هو «سر» الهوية المتوازنة التي جعلت هذا الوطن محور «خير أمة». قدر هذا الوطن الكبير، بمكانه ومكانته وتاريخه وقيمه ومبادئه، أن يكون «وسطا»، ينبذ التشدد والتطرف، ويرفض الانحلال والتفسخ، يحفظ للمجتمع سلامه وسلامته، ويمنح الإنسان توازنه الروحي والعقلي، فلا شذوذ ولا تحجر.
مشاركة :