عمق التعبير وجمال التصوير /3 «كمثل جنة بربوة»

  • 5/9/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تصوير مُشرق مُحفز بالألفاظ، وآخر تلفه عتمة نفسية لصورة واحدة ذات وجهين، الأُولى كانت مدار الآية 265 من سورة البقرة «ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من عند أنفسهم ، كمثل جنة بربوة، أصابها وابل فآتت أُكلها ضعفين فإن لم يُصبها وابل فطل»، الصدقات تحولت بفضل الألفاظ إلى جنات فوق ربوة مرتفعة مُطلة، إن جاءها وابل من غيث نمت وأعطت، وأثلجت صدور أصحابها، وحتى لو داعبها طلٌ خفيف، فهي متأهبة للعطاء حتى مع القليل من الغيث هي بهذا على النقيض تمامًا من الصفوان الأجرد الذي ما إن يلامسه المطر يستحيل كالحًا يبعث السأم في النفس، فيا لروعة ودقة التصوير حين تقِلُنا الكلمة أو الجملة القرآنية إلى تجسيد النفس المُتصدقة بجنة وبربوة اسمها ورسمها خيالها وحقيقتها تبثُّ الطمأنينة في النفس وتستفز القارئ إلى المزيد من العمل، وخاصة إذا ما استحضر الآية 254 من نفس السورة «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أنْ يأتي يوم لا بيع فيه ولا خُلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون». تتضافر وتتعاضد المُحفزات الربانية لتدفع بالإنسان ليكون إنسانًا في كل لحظة وحين، ولعمري إن في هذه الصورة البديعة التي تكاد تنطق حضورا قويا للآخر أصحاب المتربة والغارمين وأهل المسغبة، والمساكين والفقراء، وهذا هو شهرهم وموسمهم ولا أكون مبالغًا إن قلت بل عيدهم، ونقول عيدهم بثقة وطمأنينة إذا ما وقفنا على دقة التعبير القرآني وعمقه الخلاّب عندما يُفرق بين الجوع ويُقصد به الجوع الفردي، والمسغبة تُستعمل عندما يحلُّ الجوع بجماعة ويرافقها التعب والإرهاق أو ما يُدعى «بالمجاعة» والمخمصة هي الجوع مع ضمور البطن لتمكن الجوع من الجسم، وأزيد اجتهادًا خاصًا بالقول من أن الضمور جوعًا لا بد أن يترافق معه موت النفس معنويًا، هذه المعاني الصعبة على النفس حين تتحول إلى واقع ويأتي من عباد الله من يُذهب هذه الآفات من خلال الإنفاق مما رزقه الله مُخلصًا النية لوجه الله تعالى، ألا يستحق أن يُصَوَر عمله بجنة على ربوة تأتي أُكلها بوابل أو بِطلٍ خفيف، الآية تُجيب بنعم. والوجه الآخر للصورة متجسد في الآية 117من سورة آل عمران «مَثَلُ ما يُنفقون في هذه الحياة الدُّنيا كمثل ريح فيها صِرٌّ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته» مما لا شك فيه أن صورةً ستتشكل عنوة في رؤوسنا لحرثٍ «المحصول» أو ما يُسمى «الغلة» بعد إنفاق كل الإمكانيات البشرية لينضج ويستوي على سوقه، فإذا بمدافع الله المتمثلة «بالريح البارد» هنا اجتمعت آفتان على الحرث الريح والصِر الذي له تأثير سلبي على الزروع والثمار قد يصل إلى حرقها وهذا أمر يعرفه المزارعون في البلاد ذات الطقس البارد، وفي الشتاء يتحوطون لهذا البرد، فكيف إذا ريح يلفح النبات ببرده مُرسل من عند الله كعقاب على الرياء، فالريح المحتوي على الصِر يأتي على الغِلال فإذا هي أثرًا بعد عين، ويذهب بكل مجهود بُذل فيها أدراج الرياح، ولم يُبق إلا الحسرة والندم، حسرة تؤذي النفس أيما إيذاء، ليصبح الألم مركبًا ماديًا ونفسيًا إن لم يتشعب إلى مرض عضوي، هذه نتيجة طبيعية لمقدمة خاطئة انتهجها الإنسان، وهي ظلم النفس بإنفاق المال وهو كافر، فالكفر يُذهب بما كان يرجوه. المسألة جد خطيرة لأصحاب المال، حيث النية أمر لازب في تخطي العقبة التي وضع الله لها شروطا كلها عائدة على الإنسان في سورة البلد «فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فكُّ رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة، ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة», مما تجدر الإشارة إليه في هذه الآيات هو استعمال «أو» وليس حرف العطف «و» تسهيلاً وتيسيرًا كلٍّ حسب طاقته، فأي واحدة من المكارم السابقة كفيلة بأن تتخطى بصاحبها العقبة، وثاني الإشارات هي «وتواصوا» دفعًا لتعميم الرحمة بين الناس، وشهر رمضان خير الأشهر في التذكير والتواصي والمسارعة للبذل تحت مظلة النية النقية لله سبحانه وتعالى.

مشاركة :