قبل خمسة عشر عاما كنت أسأل: ما هي المساحة الممكنة للكتابة؟ كيف أعرف سقف ما يمكن نشره وما لا يمكن، بمعنى مختصر: كيف أسقي الكلمات الصغيرة المعنى العميق دون أن تشرق؟ كانت الإجابات تتفاوت من أبي قيس، إلى الألمعي، إلى الصيني، إلى قينان، أما العرابي فلم يكن يرانا، كان مشغولا بصورته في الماء، لكن ما زلت أذكر خلاصة الوصايا: لا يوجد شيء لا يمكن قوله أو الكتابة عنه، لكن السر والبراعة يكمنان في الأسلوب. تذكرت بعد هذه السنوات حكاية الوالي الذي رأى في المنام رؤيا، فسأل مفسري الأحـلام عن تأويلها فاعتذروا بأنها مجرد أضغاث أحلام، وتجرأ أحدهم فأخبره أن أبناءه سيموتون قبله، فغضب عليه وطرده، ثم جاء مفسر حكيم وقال: أيها الوالي إن تعبير رؤيـاك خير وبركة، فقال الوالي: وما تعبيرها؟ فقال له الحكيم: رؤياك تقول إنـك أطول أهل بيتك عمرا، فانبسط الوالي وسعد بكلام المفسر وأكرمه وقرَّبه إليه. الكتابة ليست كلاما شفاهيا، ولهذا سقط كثير من الوعاظ في فخ الكتابة الفاشلة لأنهم أحالوا مواعظهم الشفاهية إلى لغة مكتوبة، فكانت صوتا يستخدم الحروف والكلمات ولا يقول شيئا، لأن بطولات الخطاب الشفاهي قائمة على فن المونودراما، فيتوهم الشخص أن سبب جماهيريته عمق معانيه ودلالاته، متناسيا أنه مؤدٍّ ميلودرامي عظيم، لكنه ليس بالضرورة كاتبا عظيما. الكتابة سنابل منجلها العين بدل الأذن، أو الأصابع إن كانت (برايل)، الكتابة ليست جرحا مفتعلا في جذع شجرة لاستخراج اللبان، تمضغه الأفواه بلا كلل، كقرحة للبطون الخاوية، دون أن تروي عطشا أو تشبع جائعا، كذلك الكتابة المفتعلة تفعل في العقول الفارغة. الكتابة ملل يطرد ضجرا، يطرد سخطا، يطرد مرارة، يطرد حنقا، يطرد غيضا يطرد، ذحلا، يطرد أنا مجروحة لامرأة جميلة كسبت معها معركة، وكسبت معك حربا، انتصرت في معركة اختطاف قلبها بالكتابة، وهزمتك في حرب اختطاف حياتك بالإنجاب، لقد أصبح معك خمسة أبناء، أنت الآن جمل المعصرة، أغمض عينيك كي تتوهم المسافة، ثم حاول الكتابة. الكتابة شمعة يلذ لها الاشتعال لتضيء بهدوء، فتذوب وتذوب وتذوب ثم تنطفئ بصمت، لقد عاشت كضوء وقور، بعيدا عن ضجيج الحرائق المفتعلة، وطقطقة الحطب الرخيص. الكتابة (كاوس)، الكتابة (تابو)، الكتابة لم تعد حلفا ثلاثيا بسيطا بين سبابة ووسطى وإبهام، الكتابة صارت أنامل عشراً، الكتابة لم تعد قلما، الكتابة كيبورد، فيا لبؤس جامعات تريد علم النانو بعقل الكتاتيب. الكتابة ليست مغامرة، الكتابة ليست مقامرة، الكتابة خوف وقـلق وجبن وخور تعتقه الروح كالنبيذ، فيسكر القارئ ليرى معارك لم تحصل، لأبطال لم يكـونوا، كخطة حربية تنتظر المُخَلِّص. الكتابة تجاعيد الناصية، سديم الروح، الكتابة كبرياء الحبال الصوتية المقطعة، الكتابة فشل في الدورة الدموية، الكتابة انهيار عصبي، الكتابة مشنقة تنتظر كلمة جريئة تركل الكرسي تحتك، لترى نفسك معلقا برأس نصف مائل، فتصبح شهيد الكلمة، أو شهيد خطأ مطبعي، لا فرق، فالكتابة ستبقى مجالا للكتابة، مجالا للاستبداد، التأويل يجلب التأويل. الكتابة مضغ الساعات الطويلة، تعصر نبات الروح، بانتظار الساعة السليمانية، فالكتابة صنعاء، الكتابة فأر مأرب، الكتابة قاموس ينجب قاموسا، الكتابة هروب للأمام، الكتابة رامبو في عدن. الكتابة حياة طويلة (بين الكتب والناس)، فإما شاعر أو (لا شيء)، (لا شيء) هي أن تكون كاتبا أو أكاديميا أو مجنونا، الكتابة إن لم تكن شعرا، ميلادا جديدا للدلالة فليست كتابة، حتى الفلسفة لا تسمى فلسفة ما لم تنجب مفاهيم ودلالات جديدة، كما يفعل الشعراء تماما، الكتابة رقص.. من لا يجيد الرقص أو يتكبَّر عليه، فلا يكتب، الكتابة رقصة حرب أو باليه، الكتابة ميدان أو مسرح، الكتابة نصّ مليء بالأبطال، لا حشد يعج بالكومبارس، الكتابة مناورة بذخيرة حية، الكتابة تاريخ الظهر الأحدب، الكتابة جغرافيا المعنى الممتد، الكتابة ثدي الأم بعد الفطام ينتظر مواسم الفحولة. الكتابة جوع الضباع تأتي الضحية من كل الجهات، الكتابة قصيدة عظيمة، وما عداها في كل المجالات هوامش لمعناها، يقول البردوني: يجزئون المجزأ... يصنفون المُصَنَّف، لا وراءك ملهى ولا أمامك مصرف، فلا من البعد تأسى ولا على القرب تأسف، لأن همك أعلى لأن قصدك أشرف، لأن صدرك أملى لأن جيبك أنظف، يا "مصطفى" يا كتابا من كل قلب تألف، ويا زمانا سيأتي يمحو الزمان المزيف. هل ترك البردوني بعد هذا من فسحة لتحليل سياسي أو فلسفة اجتماعية، لقد تكلم في قصيدة "مصطفى" بلسان نيتشة عن مفهوم القوة، ولسان ماركس عن الديالكتيك، وسارتر عن الوجودية، تلك هي الكتابة.. تلك هي الكتابة، فهنيئا للشاعر ملكوته، وجنبه الله إكليل الشوك، وصداقة الإسخريوطي، كاتبا كان أو أكاديميا.
مشاركة :