كانت تلقب بـ «البارونة السوداء»... وكانت - بين أمور أخرى - صديقة لمارلين مونرو، خلال الأعوام الأخيرة من عمريهما، فهي ماتت بعد شهور من انتحار نجمة نجمات هوليوود أوائل سنوات الستين. وكانت، أصلاً، كاتبة كبيرة حتى ولو أنها وقّعت الكثير من كتبها الأساسية بأسماء مستعارة، منها الاسم الذكوري إسحاق دنيسن الذي كان ذات مرحلة من حياتها أكثر شهرة من اسمها الحقيقي: كارين بلكسن. لكن أحداً لم يدرك السبب الرئيسي للقب الذي أطلق عليها جامعاً بين لقبها الرسمي: بارونة، واللون الأسود. وكانت الترجيحات بين ثلاثة اعتبارات: أولها أنها وهي الدنماركية، كانت داكنة اللون، ثانيها أنها كانت طوال النصف الثاني من حياتها، على الأقل، ترتدي ثياباً سوداً، أما الثالث فهو أنها ارتبطت بالقارة الأفريقية (القارة السوداء) في حياتها وعواطفها، كما في القسم الأهم من كتاباتها. وهي، على أية حال، حين كانت تُسأل عن الموضوع، كانت تبتسم وتشير إلى الجنوب، ما يرجح كفة التفسير «الأفريقي» للقبها. وأخيراً، إذا كان اسم كارين بلكسن - إسحاق دنيسن قد عاد إلى الواجهة الثقافية بعض الشيء خلال العقود الأخيرة، فإنما كان هذا لمناسبة عرض وإعادة عرض فيلم الأميركي سيدني بولاك، «خارج أفريقيا» الذي كان واحداً من أجمل أفلامه وأكثرها رومانسية. والفيلم مأخوذ عن الرواية الأشهر بين كتابات كارين بلكسن الحاملة الاسم نفسه، وإن كان بولاك حين حقق الفيلم مشتغلاً على السيناريو المقتبس من الرواية آثر إحداث تبديلات كبيرة، كأنه جعل من الفيلم قراءة لكتابة بلكسن لقصتها مع أفريقيا من خلال ذلك الكتاب، مختاراً أن يركز على الطابع الذاتي للعمل، بدلاً من أن يجعل من الفيلم - كما كان الكتاب أصلاً - أنشودة حب لأفريقيا، ثم التعامل مع الفيلم على أنه مأخوذ من رواية، بينما نعرف أن الكاتبة وضعت الكتاب على شكل مذكرات أفريقية، وجعلت جزءاً مهماً من فصوله وصفاً للطبيعة والحياة في أفريقيا، وسرداً لتفاصيل النبات والحيوان والمناخ وأخلاق الناس. وهنا، حتى وإن جاء الفيلم الذي مثله روبرت ردفورد وميريل ستريب كبيراً إلى درجة أنه نال سبع جوائز أوسكار، فإنه أبداً لم يغن عن قراءة الأربعمئة صفحة التي تشكل متن هذا الكتاب. وكان طبيعياً بالتالي، حين حُقق الفيلم ونال ما نال من نجاح عام 1985، أن يعود مئات الألوف إلى قراءة الكتاب الذي كان منسياً بعض الشيء منذ وفاة صاحبته عام 1962، ويكتشفوا أنها وقّعته بالاسم الآخر إسحاق دنيسن، كما حال عمل آخر لها حققه أورسون ويلز في سنواته الأخيرة، من بطولة جان مورو مقتبساً من قصة قصيرة لها تحت عنوان «الحكاية الخالدة». > تميّز أدب كارين بلكسن بنزعة غرائبية، كانت هي تقول دائماً أنها مستقاة مباشرة من «ألف ليلة وليلة» التي قرأتها في صباها فكانت العامل الحاسم في توجّهها إلى الأدب. غير أن هذا لا ينطبق على «خارج أفريقيا»، إذ هنا، في هذا الكتاب الذي صدرت طبعته الدنماركية الأولى عام 1937، لم تلجأ الكاتبة إلى أي خيال أو بعد غرائبي. كل ما في الأمر هنا أنها كتبت مذكراتها الشخصية حول المرحلة التي عاشتها في كينيا، الشرق الأفريقي، بين 1914 و1931. خلال تلك الحقبة كانت تلك المنطقة من العالم جزءاً من الإمبراطورية البريطانية. وكان الأوروبيون من أمثال كارين بلكسن يتوجهون إليها للعيش والاستثمار. وبالفعل حين وصلت كارين وزوجها، في ذلك الحين البارون دنيسن إلى منطقة نائية واقعة بالقرب من نيروبي عاصمة كينيا، «اشتريا» قطعة كبيرة من الأرض تصل مساحتها إلى 24 كيلومتراً مربعاً... جعلا جزءاً منها مزرعة للبن، فيما أبقيا على الجزء الآخر، والأوسع، كما هو حيث كانت تعيش فيه أقوام «بدائية» من سكان البلاد الأصليين. ولقد توافق الزوجان مع هؤلاء السكان على أن يواصلوا حياتهم كما هي، مقابل أن يعمل الفرد منهم بضعة أيام في السنة في مزرعة البن. أو هذا على الأقل ما ترويه لنا البارونة - راوية الحكاية في صفحات هذا الكتاب، مؤرخة فيه أكثر من عقدين من «الحياة اللذيذة» في ذلك الجزء من العالم. > طبعاً، لا يمكننا أن نعرف أبداً ما إذا كان ما ترويه الكاتبة، صحيحاً أم إنه صحيح جزئياً فقط، غير أننا، إذا استندنا إلى وصفها، فسنجدنا كما لو أننا في جنة عدن: الصيد وفير والأشغال مزدهرة والانسجام بين الأقوام الكثيرة القاطنة في المكان وحوله، سواء الأوروبيين الدنماركيين والإنكليز، أو من الهنود المغتربين أو العرب المتجذرين هناك أو من السكان الأصليين الماساي وغيرهم، هذا الانسجام على أحسن ما يرام. بل إن ثمة في المركز من هذا كله شخصية لا تخلو من بطولة وتميز هي شخصية الصياد الطيار وربما «زير النساء» أيضا دنيس فنش - هاتون الذي توحي «الرواية»، ولكن أقل كثيراً مما سيقول الفيلم بعد ذلك، أنه عاش حكاية عشق مع الراوية. في الكتاب هو مجرد صديق عزيز وخلّ وفيّ، ترصد تصرفاته وأعماله البطولية وضروب شهامته، من موقع الإعجاب. أما في الفيلم، فإن ما يقال لنا هو أكثر من هذا. ما يقال في الفيلم يتعلق بحكاية حب رومانسي شديدة اللطف والخطورة. غير أننا إذا ضربنا صفحاً عن هذا الفارق بين العملين، فسنجد تطابقاً جيداً بين بعض أحداث الكتاب وكل أحداث الفيلم وأجوائه. > والتطابق يطاول بخاصة مسرى الأحداث، الذي ترويه لنا الكاتبة - ولكن بعد انقضاء كل ذلك الزمن - بحنين كبير إلى ماض، لم يكن مرّ على انقضائه، حين كتبت المذكرات، سوى سنوات قليلة. بل إن ثمة ما يقترح علينا أن كارين بلكسن حين وضعت كتاب مذكراتها الأفريقية هذه، كانت لا تزال تأمل بألا تكون نهاية الكتاب نهاية مغامرتها الأفريقية، علماً أن نهاية الكتاب تشهد سماع الكاتبة نبأ مقتل صديقها الصياد - الطيار في حادث طائرة سقطت به. إذاً، كانت كارين ترى أن لا نهاية للأمر، وأن حلمها الأفريقي يمكن أن يتواصل. ونعرف أنه لم يتواصل بالطريقة التي أرادتها... غير أن هذه حكاية أخرى. الحكاية هنا هي حكاية المرأة الدنماركية الليبرالية والثرية مع قارة أحبتها كثيراً، وعرفت كيف تتعامل مع أهلها وكيف تفهم دقائق نفسياتهم ودوافعهم، ما جعل نصها في ذلك الحين يسير عكس التيار، مقارنة بمعظم النصوص الأوروبية التي كانت تتنطح، في شكل أو في آخر، للكتابة عن أفريقيا وإنسانها. في هذا المعنى ينظر البعض، اليوم، إلى كتابات «البارونة السوداء» حول أفريقيا على أنها النصوص التي مهدت لمجيء جمهرة من كتاب أوروبيين، عاشوا أيضاً في هذه المنقطة من القارة الأفريقية، أو تلك، وأعادوا الاعتبار للإنسان الأفريقي، بعدما شوهته نصوص أوروبية كولونيالية أخرى. وفي هذا السياق، قد يبدو أجمل ما في كتاب «خارج أفريقيا» تلك الصفحات التي تصور فيها الكاتبة، ما يعتبر «النهاية»: حيث إن افلاس المزرعة وهبوط أسعار البن في العالم، جعل البارونة مضطرة لإنهاء تلك المغامرة والتخلي عن المزرعة وسكانها... ما أدى إلى الفراق مع أناس أحبتهم وعلى رأسهم فرح الذي كان يدير شؤون المزرعة، كما كان صلة وصل البارونة بالعمال المياومين وحياتهم. > على رغم أن كارين بلكسن (1885 - 1962) أصدرت خلال حياتها المديدة عدداً لا بأس به من الكتب ونصوص المذكرات وغيرها، يبقى كتاب «خارج أفريقيا» أشهر أعمالها، والكتاب الذي قال حبها لتلك القارة. ولقد عرف عن كارين أنها كتبت أعمالها حيناً بالإنكليزية وحيناً بالدنماركية... ومن أعمالها المعروفة - وإن كان أقل من «خارج أفريقيا» - مجموعة «سبع حكايات قوطية» و «النساك» و «عائلة ديكاتس» و «حكايات الشتاء» و «ظلال العشب»، علماً أن ما لا يقل عن سبعة كتب لها، لم تنشر إلا بعد رحيلها، ومنها «كارين بلكسن في الدنمارك: مختصر عام 1931 - 1962»، الذي نشر للمرة الأولى عام 1966، متابعاً سيرة حياتها في الدنمارك وغيرها بعد مبارحتها أفريقيا، وهو كتاب يعبق بالحنين إلى القارة السوداء في كل صفحة منه.
مشاركة :