r نبدأ بآخر إنجازاتك د.صالح، (سجون الثقافة): لمن لم يقرأ الكتاب بعد: هل نحن بالفعل مسجونون ثقافيًا؟ وهل السجن هنا عِقابٌ أم مكافأةٌ يمنحها لنا الواقع وما علينا إلا قبول المكافأة؟ - لا يمكن أن نفكر في وجود إنساني خارج الثقافة، فالإنسان مجتمعاً وفرداً مطوَّق بالثقافة؛ إذ يندرج حتماً فيها، أي في ما تتألف منه من مفاهيم وتسميات وعادات وأعراف وقوانين وقوالب ذهنية ومصنوعات ونماذج للفهم والتأويل وأشكال ورتب اجتماعية وأخلاقيات... إلخ. وإذا جاز لنا - من هذا المنطلق - أن نفهم الثقافة سجناً، على نحو ما اتجه الكتاب إلى تجليته، فليس لنا أن نفهم الحرية والعدالة والحقيقة، إلا بوصفها ثقافة، وأن نستنتج من ذلك أن علاج الثقافة هو الثقافة. وبالطبع فإن هذا المعنى يصدق على الثقافة الإنسانية في عمومها، فالثقافة هي من يصنع تمايز المجتمعات في مستويات التقدم والتحرر والرقي، وهي من يصنع التخلف، والظلامية، والتعصب، والكراهية للآخر، والعنصرية، وأدوات الحرب والعدوان، والتمييز الجنسي والعرقي والطائفي… وإلى آخره. وإذا كانت المجتمعات تعاني من سجون الثقافة فإن بعضها أكثر أو أقل معاناة من بعض. r في خصومة (دعوى السرقة الشعرية) الشهيرة، أظهرتَ ثباتًا وحِلمًا وشَرَفًا في مواجهة عاصفة تويتر في تلك الفترة؛ كيف استطعتَ ذلك؟ وهل تشعر الآن بالرضا عن موقفك وعن تأويل كلامك في القضية؟ - إذا كان السؤال عن الرضا، في معنى الانتصار الشخصي للذات، فإنني أفترض مبدئياً وجوب التجرد منه، وأفترض أن يتساءل المرء في الوقوف في موقف على النحو الذي تشير إليه عن مقدار قناعته بصدقية موقفه وحجيته على مستوى الاستدلال والبرهنة وعلى مستوى الضمير الأخلاقي. لم ألتفت كثيراً في أول الأمر، إلى حقيقة الوسم الذي يتهم في تويتر مسؤولاً عن الإعلام والثقافة بالسرقة، حتى لفت نظري مقطع تسجيل متداول من إحدى الفضائيات العربية، يتحدث فيه مقدم برنامج ساخر معروف - بتبجح مرير- عن سرقة مسؤول سعودي كبير قصيدة أحمد شوقي (هكذا، حتى لم يقل أبياتاً). شعرت بالألم والغضب من هذا «السارق» وعليه، وعُدتُ لأتأمل ما حدث فوجدتُه تمثَّل بأبيات، كما يتمثَّل أحدنا بأبيات أو حكمة أو قول لأحد المشاهير، وهي ممارسة معروفة ومألوفة في تراثنا. لستُ - طبعاً - ضد النقد حين يصطحب ما يلزم من استدلالات، ولستُ في صف الذين يلتمسون القيمة الثقافية لأشخاصهم، من مجرد الوقوف موقف الاعتراض على مسؤول، كيفما كان هذا الاعتراض، ولأي سبب كان؛ لأن ما يريدون التأشير إليه في موقفهم هذا من الاستقلال والجراءة، يمكن أن يكون في الموقف المعاكس تماماً. r بين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأبها، وجامعة الملك سعود بالرياض، (العاصمة أو المصيف/ المنهج أو المنهج)، أي من ذلك استطاع صناعة مرحلة جديدة من عمرك الثقافي؟ ما الأجمل بصراحة؟ - ليست الإجابة عن سؤال من قبيل «الأجمل» أو الأفضل، ميسورة؛ لأن السؤال الذي يفترض تمايزاً وتفاضلاً، يستبق إلى تقسيم وحدة الإحساس وحصره بين رتبتين. درستُ في جامعة الإمام في أبها وعملت وعشتُ زمن الشباب الأول ورُفقته وأحلامه وآماله، ثم انتقلت إلى جامعة الملك سعود في الرياض وعملت وترقيت أكاديمياً وعشت ورافقت الأصحاب. وبقدر أُلفتي للرياض وابتهاجي بها، لم ينقطع حنيني إلى زمن أبها ورفقائها، ومازال لامعون مثلك يا أبا يحيى يُبهجون الضمير ويتألقون في الوجود وفي الذاكرة. لم يكن انتقالي من أبها إلى الرياض انتقالاً - وحسْب - من مكان إلى آخر، كان كذلك انتقالاً من زمن إلى آخر، وكان المكان الذي أطمح إلى الانتقال إليه طموحاً إلى زمن مختلف كذلك، وحين أعود بالذاكرة الآن إلى قسوة الماضي ومحدوديته وقيوده، أحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وأتأمل ما ينعم به أبناؤنا وبناتنا من اتساع خياراتهم، وأتنفس الصعداء. كانت الدراسة مكرَّسة إيديولوجياً وتقليدياً، وسيعجب الجيل الآن، كل العجب، حين يعرفون عن جيلنا، أن دراسة شعر التفعيلة وقصيدة النثر والرواية، مثلاً، كانت ممنوعة، وكانت الأسماء الأدبية والنقدية المتداولة في الحدود المرضي عنها فقط. r بعد نقد الرواية العربية، ودراسة النصوص الفصحى ثقافيًا وأدبيًا، والعيش مع هوميروس والوقوف أمام طروادة... إلخ، لا يجد صالح زيّاد حرَجًا في التغني بـ(زَمَلَة) عتيقةٍ للغويد وأبو جعيدي وابن مصلح! الفن للفن؟ أم ماذا؟ - الفنون الشعبية في كل المجتمعات، مغروسة في أعماق أبنائها، وهي تحظى بمساحة واسعة في متعة التلقي؛ لأنها في مكونات لحنها، وطروق غنائها، وأشكالها التعبيرية، مصطفاة ومركبة من أجمل ما ارتضته الذائقة الاجتماعية وتآلفت معه من جُمل الغناء وأصواته ومقاماته لحونه. وفيها يتجلى الفن في وظيفته الفنية التي لا يمكن ترجمتها واختصار كنهها أو وصفها في مفاهيم مجردة من قبيل الاندماج في الجماعة أو التعبير عن الوجدان، أو نحو ذلك من وظائف وتعريفات لا تستغرق المعنى الفني ولا تستنفده. ولاحظْ كيف يؤدي في أيامنا هذه استخدام الأدوات الموسيقية لأداء الرقصات الشعبية المختلفة إلى إبراز مكوناتها اللحنية. وما نراه في بعض التسجيلات المرئية المصنوعة من قبل بعض الهواة من دبلجة لرقصة شعبية مثل اللعب الشهري أو الخبيتي أو الخطوة مع موسيقى غربية أو رقص أوروبيين أو أفارقة، يتيح الشعور بالحضور الإنساني الكوني فيها، ويضفي عليها غرابة تمكننا من اكتشاف الجوهري والصميم في ما غدا منها بسبب مألوفيته وماضويته عادياً أو منسياً. وأرجو أن تجد من الاهتمام بها ما يدعو إلى الاستمداد من غناها ويمكِّن من تطوير مشتقات من ألحانها وتشكيلاتها، وتوظيفها، ودراستها. r لو عُرِضَت عليك المشورة بخصوص مشروع ثقافي ضخم لأبناء البلد؛ فماذا ستقترح؟ وبمن ستستعين من رفقائك في الأدب والنقد والثقافة؟ - كانت الثقافة في المملكة تعني، أكثر ما تعني، الأدب والدراسات المتعلقة به، بوصفه دلالة على الكتابة التخييلية باللغة الفصحى تحديداً. وكان الاهتمام الرسمي والنخبوي يتجه، أكثر ما يتجه، إلى الأندية الأدبية، حتى أن جمعيات الثقافة والفنون التي تنهض بمناشط الثقافة في حقول الموسيقى والمسرح والسينما والفن التشكيلي لم تحظ قياساً على الأندية الأدبية إلا بقليل من الاهتمام. وقد فاجأت وزارة الثقافة هذا الوعي المحدود للثقافة، في إستراتيجيتها التي تضمن الإعلان عنها في نهاية الشهر الماضي، الإعلان عن 27 مبادرة، تفتح آفاق الثقافة وتوسِّع من مفهومها، وتشرع الباب للاهتمام بما لم يكن لدى النخبة الثقافية في الحسبان. وبالطبع فإن المؤسسات الثقافية في كل المجتمعات لا تستطيع إنتاج مفكر أو فنان أو أديب... أو من إليهم من الطاقات والمواهب الثقافية، ولكنها تستطيع بما تصنعه من خطط ودعم وتشريعات وتشجيع، خلق المناخ الملائم لتألق تلك الطاقات ولنموها. لهذا أعتقد أن وزارة الثقافة تصنع مشروعاً كبيراً للنهوض بالثقافة السعودية وعصرنتها، وعلى المثقفين القادرين أن يباركوا هذا المشروع وألا تدفعهم الأنانية والمصالح المرتبطة بطبيعة اشتغالهم إلى خلاف ذلك.
مشاركة :