موضوع سوق المدينة يجب ألا يتم التحدث عنه بصورة بسيطة، فالموضوع ليس من السهولة بمكان، بل إنه توجه كبير وقفزة نوعية في الدولة الإسلامية آنذاك، ومؤشر مهم يجب أن يفكر فيه علماء الاقتصاد الإسلامي في هذا العصر، فلم يأت هذا التوجه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنشاء السوق الإسلامي من فراغ، وإنما تم إنشاء هذا السوق بناء على مجموعة من الحقائق التي أقيمت عليها الجوانب الاقتصادية في الدولة الإسلامية، وهذه الحقائق يجب التفكير فيها واستيعابها بصورة صحيحة فهي ليست محصورة على ذلك الزمان، وإنما تشريع إسلامي يمتد حتى اليوم والغد وما وراء الغد، فإن أردنا أن نقيم الدولة الإسلامية فإنه يجب أن نعيد النظر في الحقائق المتعلقة بإقامة سوق المدينة المنورة، وهذه الحقائق هي: 1. إقامة السوق أمر إلهي فهو جزء من تحقيق وتطبيق الشريعة الإسلامية، فلا يمكن إقامة دولة إسلامية إلا بإقامة سوقها واقتصادها ووفق المنهج الإسلامي، وليس وفق المنهج الغربي اليهودي. وهذا إن كان ينم على شيء فهو يؤدي إلى توضيح معنى شمولية المنهج الإسلامي، فالإسلام مسجد ومعهد وسوق وما إلى ذلك، فلا يستقيم أمر المجتمع الإسلامي من دون أن تكون معاملاته طبقًا لشرع الله عز وجل، وهنا يكون التفاعل والترابط بين القيم الإيمانية والأخلاقية الفاضلة والسلوك الاقتصادي الإسلامي الطيب ليضبط المعاملات التجارية. 2. استقلالية المجتمع المسلم من الاحتكار والتسلط والاستغلال الأجنبي، فمن لا يصنع غذاءه لا يمتلك قراره، والسوق مرحلة من مراحل صنع الغذاء، وليس الغذاء وحده وإنما السوق هو المرفق الحيوي الذي من خلاله يتدفق المال، والسلع والبضائع بمختلف أنواعها، وهو الشريان الأضخم الذي تتدفق من خلاله الحياة للمجتمع، فتصور إن تحكم الأجنبي بهذا الشريان بمعنى إن تحكم في اقتصاد البلاد سواء من الداخل أو من الخارج، كما يحدث اليوم إذ إن مصير دولنا العربية مرتبط بالدولار وتلاعبات الأجنبي في السوق، ثم تصور أن هذا الأجنبي في يوم ما اختلف معك في أمر ما وحاول أن يجبرك على الامتثال لأوامره وأفكاره وأن تتبنى أطروحاته، ولكنك رفضت أو حاولت أن تفكر أو أن ترفض، فما يكون منه – بكل بساطة – إلا أن يغلق هذا الشريان أو أن يخنقه، بمعنى أنه يفرض عليك الحصار لسنوات ربما تمتد إلى عشر سنوات وربما تزيد أو تقل، وذلك بحسب متطلبات تحقيق رغباته، فماذا يمكن أن يحدث للمجتمع أو الدولة التي تعتمد على هذا الشريان الحيوي وهذا الاقتصاد الأجنبي؟ حتمًا هذه الدولة ستختنق وتموت سواء إن طال الزمن أو قصر، ما لم تخضع لمتطلباته وأوامره ورغباته. وهذا من بُعد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاستقلالية الدولة الإسلامية وعدم إخضاعها للأجنبي أيًا ما كان، وهذا الأمر ليس لرجالات المدينة المنورة في ذلك الزمن فقط بل إنه أمر يمتد حتى إلى المستقبل البعيد، فلو ترك الأمر لغير المسلمين لتحكم كل الغرب في المسلمين وربما فرضوا الحصار والإتاوات عليهم بطريقة أو بأخرى، ولأصبح الاحتكار قوة في يد القوة الغاشمة التي تريد تحطيم القوة الإسلامية على مدى العصور. 3. يجب أن يكون للمسلمين قوة اقتصادية يستطيعون بها المحافظة على أموال المسلمين وتنميتها بالحق، وأن يكون لهم سوق خال من كل صور الغرار والربا وأكل أموال الناس بالباطل، سوق يقوم على الطيبات والحلال والصدق والأمانة والتسامح والقناعة وخال من الاحتكار. 4. حاجة المسلمين إلى هذا السوق، فمن خلاله تمكن تجار المسلمين في ذلك العصر من تحقيق الفتوحات ونشر العلم والتعليم، فلو كان الاقتصاد الإسلامي أو بالأحرى السوق الإسلامي تحت سيطرة اليهود لما استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير الجيوش ويعلم القرآن والكتابة والقراءة. 5. حاجة المسلمين إلى الحياة، فهم يحتاجون إلى الأكل والشرب، والملبس وبناء البيوت وتشديد الدور والمصانع والمنشآت، فلو ترك كل هذا في يد اليهود أو الأجنبي، لما استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم الخلافة الإسلامية. 6. وجود سوق خاص للمجتمع يسهم بصورة كبيرة في حل الكثير من القضايا الاجتماعية الاقتصادية كالبطالة والتوكل والكسل وما إلى ذلك، إذ إن هذه المشاكل الاقتصادية ستؤدي إلى مشاكل اجتماعية واقتصادية أخرى وربما أشد قساوة مثل التسكع وإضاعة الوقت ومن ثم يمكن أن توصل الإنسان وخاصة الشباب إلى مرحلة الانحلال والإدمان وما إلى ذلك، وخاصة في ظل انتشار البطالة وعدم وجود وظائف للخريجين، فوجود السوق يسهم بطريقة إيجابية ويحث الكثير على دخول الأسواق والعمل وحتى في بعض المشاريع البسيطة التي تعرف اليوم برعاية الأعمال، والتي يمكن أن تكبر يومًا ما ليصبح هذا الشاب وتلك الفتاة من رواد ورائدات الأعمال، وهذا يعني ببساطة ازدهار المجتمع. 7. توفير موارد مالية للدولة، فالدولة الإسلامية الناشئة لم تكن لديها في ذلك الوقت موارد، فلا يوجد بترول أو غاز أو بنوك أو أسهم ومتاجرات ومضاربات مالية، ولم تكن لديها أي وفورات مالية بأي صورة كانت، وعلى الرغم من ذلك فإن الشريعة الإسلامية فرضت زكاة المال على التجار ومن يمتلك للفقراء من المسلمين، وقد حددها الشرع في الأوجه الثمانية بحسب الآية الكريمة في سورة التوبة – الآية 60 حيث قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فلنتصور مثلاً إنه قام من يمتلك المال بدفع الزكوات بصورة سنوية ولكنه في المقابل لم يستطع استثمارها في أي عمل فماذا يمكن أن يحدث؟ حتمًا أن المال سيتناقص ويقلل بصورة دائمة، وهذا التاجر سيجد نفسه بعد عدة سنوات مفلسا، لذلك وفي ظل هذه الظروف فإن فتح وتدشين سوق المدينة فتح المجال للتجار للاستثمار وتداول المال وهي موارد للدولة الناشئة. هذه بعض الفوائد التي تدل على قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإدارة المالية وحُسن تفكيره، إذ إن فتح هذا السوق واستقلاله عن السوق اليهودي الأجنبي كان مؤشرا على شمولية الدولة الإسلامية واستقلالها عن أي ضغوط أجنبية والحصار الأجنبي الذي يمكن أن يحدث في أي لحظة. وما زال الحديث عن سوق المدينة المنورة لم ينته. zkhunji@hotmail.com
مشاركة :