في 8 مايو (أيار) 2019، مرت الذكرى الأولى للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران وعودة واشنطن إلى فرض عقوبات مشددة على طهران، وقبل أيام وُضِعَت في التطبيق المرحلة الثانية من العقوبات، وهي الأطول والأشد والأقسى، بإلغاء إعفاءات لثماني دول كانت أميركا قد سمحت لها مؤقتاً باستيراد النفط الإيراني. جاء القرار في سياق حملة أميركية هدفت إلى تصفير تصدير الخام الإيراني، ما يعني أنه من اليوم ستفقد الميزانية الإيرانية 40 في المائة، هي إيرادات متأتية من الصادرات النفطية. وبالتالي سيُحرم «الحرس الثوري»، الذي أُدرج على اللائحة الأميركية للمنظمات الإرهابية، من الجزء الأكبر من إمكاناته المالية، التي سمحت لهذه الجهات التبجح بأنهم يسيطرون على 4 عواصم عربية، مطلقين التهديدات بأن «الهلال الشيعي» سيتحول بدراً!!ردّت طهران بتهديدات متتالية بإقفال مضيق هرمز، وأبلغت الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي أنها ستُوقف بشكل «جزئي أو كلي لبعضٍ من التزاماتها في الاتفاق»، وفجأة وجّهت واشنطن «أرمادا» هجومية إلى المنطقة، بضوء معلومات استخبارية جدية أن طهران تُعدُّ لهجمات ضد القوات والمصالح الأميركية، وأُرفق التحرك الأميركي بمواقف حازمة من الوزير بومبيو، ومستشار الأمن القومي بولتون، فحواها أن أي استهداف مباشر أو من خلال وكلاء، فإن واشنطن ستحاسب طهران، لأنها ستعتبرها المسؤول المباشر. يتضح أن ضغط العقوبات جرى تعزيزه بالقوة الضاربة، والهدف إرغام حكام طهران على العودة إلى طاولة المفاوضات، وفق جدول أعمال أميركي، ينطلق من طي صفحة حُلم السلاح النووي، إلى تغيير إيران سلوكها في الإقليم، وصولاً إلى إرغامها على التراجع إلى داخل حدودها، لأنها وفق الرؤية الأميركية هي الجهة المسؤولة عن زعزعة استقرار المنطقة، ومسؤوليتها لا تناقش في توسل الأعمال الإرهابية كمعبر للهيمنة.من الثابت أن البلدان التي استفادت سابقاً من الإعفاءات لمدة 6 أشهر سحبت شركاتها واستثماراتها من إيران، وعوّضت حاجتها النفطية من بلدان أخرى، ما يعني أن الضجيج الإيراني مجرد لغو، لأنه حتى عمليات شحن الخام متعذرة مع غياب التأمين على الناقلات البحرية. يبقى احتمال التهريب وارداً، إن عبر بحر قزوين، أو من خلال جهات عراقية، لكن المحاذير كثيرة، والسوق السوداء ليست الحل. هذا فضلاً عن أن العقوبات الأميركية أدت واقعياً إلى إخراج إيران من النظام المالي العالمي (التعامل بالدولار).يضع الضغط الأميركي طهران أمام تحديات دقيقة، قد تفضي إلى خطأ غرور القوة العسكرية، والرهان عليها. هذا التحدي يضع النظام الإيراني في عين العاصفة، ما لا يريح الملالي، الذين دأبوا على خوض كل حروبهم بالوكالة بواسطة الآخرين، ممن حوّلتهم طهران إلى مشروعات جاليات إيرانية في بلدانهم، أو أولئك الذين تم استقدامهم من باكستان أو أفغانستان. وكل المواقف الحربية والتلميحات عن الاستعدادات، خصوصاً بعد تعيين اللواء سلامي قائداً لـ«الحرس الثوري»، وهو اشتهر بتكرار التهديدات بإقفال مضيق هرمز، تندرج في سياق الرسائل الخاوية التي تطلقها طهران، رغم أن الجهات الدولية تعرف جيداً حجم القوة الحقيقية لإيران، والكل يعرف أن طهران هددت سابقاً واشنطن من أنه إذا انسحبت من الاتفاق النووي فإنها ستمزقه وستعود لتخصيب اليورانيوم، وعندما دقت ساعة الحقيقة تجاهلت تهديداتها... واليوم تتحدث عن وقفٍ جزئي لبنودٍ من الاتفاق بوهم الحفاظ على بعض المصداقية.كل هذه العربدة عن أن «الحرس الثوري» ينتظر اللحظة لإنزال الهزيمة بالشيطان الأكبر، الولايات المتحدة، لا تعدو كونها مجرد استعارات من الصحاف، وزير صدام حسين، مبتكر تعبير «العلوج»، لأنه لو ارتكبت طهران الخطأ، فإنها تكون استفزت الولايات المتحدة، والمكانة التي تحتلها، كما دول المنطقة، كالسعودية والإمارات، التي تمتلك الكثير من عناصر القوة للحفاظ على مصالحها. احتمال مثل هذا الخطأ هو الذي دفع واشنطن إلى خطوات استباقية كبيرة، لأن في الأمر تحدي استخدام القوة، للحفاظ على التجارة الدولية وخطوط الملاحة في مضيق هرمز، كما باب المندب، فهل ستطوي إيران رغباتها؟ وهي تعلم أن أي مستوى من المواجهة قد تندفع إليه طهران سيؤدي بها إلى مزيد من العزلة، وأن حدود مواقف الآخرين وتأييدهم لها من الصين إلى روسيا والاتحاد الأوروبي معروفة، وأنه ما من جهة ستذهب بعيداً معهم.رغم بعض التباينات تهاوت النظريات عن وجود أجنحة في السلطات الإيرانية، بين روحاني الذي يؤيد مفاوضات غير مشروطة مع الأميركيين، وبين المرشد وقيادات «الحرس الثوري» التي ترى ذلاً في مفاوضات تحت الضغوط الأميركية، وقد اعتبر الجنرال سليماني التفاوض الآن «استسلاماً محضاً»، ولم يعد من بديل على المستوى الإيراني إلا «اللجوء إلى الاقتصاد المقاوم» كما يردد سليماني وظريف وغيرهما، وهذا عنوان يجري استخدامه هذه الأيام في لبنان، وهو جزء من بروباغندا الفشل، كان قد طرحه خامنئي في العام 2011. وبدأ وصفة استراتيجية قادت إيران إلى الاختناق الاقتصادي، ودفعت بعموم الإيرانيين إلى حافة الفقر، وأخرجت الملايين الغاضبة إلى الشوارع.لذا احتمال الرد بالوكالة يبقى أمراً وارداً، لأن حكام طهران لم يقيموا يوماً أي اعتبار لاستقرار المشرق العربي، وهم من يتحمل المسؤولية الكبرى عن هشاشة دوله وتفكك نسيجها، رغم أن أي بحث عاقل يفيد بأن مزيداً من التخريب في لبنان وسوريا والعراق ليس السبيل لتخفيف العقوبات، لا، بل المنطقة اليوم أشبه بـ«التايتانك» لن ينجو منها النفوذ الإيراني.بهذا السياق المقلق، يجب النظر إلى التهديدات الإسرائيلية بذريعة الترسانة الصاروخية التي يتباهى بها «حزب الله» وتحديد بنك أهداف في لبنان، وكذلك المواقف التي أعلنها نصر الله عن أن الفرق والألوية الإسرائيلية التي ستفكر بالدخول إلى جنوب لبنان «ستدمر وتحطم أمام شاشات التلفزة العالمية»، يعني أن لا شيء يبشر بالخير، وما يزيد من بشاعة الصورة أن أهل نظام المحاصصة الطائفي يتعامون عن المخاطر الداهمة، وكلهم دفنوا الرأس في الرمل، وكأن شيئاً لم يكن!
مشاركة :