لا تحمل الانتخابات أي مؤشر على أن تغييرا سيجري في تونس، والمشهد يستمر بنفس مواصفاته حتى وإن تغيرت بعض الوجوه والتوازنات، وهو ما يعني أن الصخب الذي يتبع الدعوات للتسجيل في الانتخابات هو صخب خاص بالأحزاب وجمهورها، ولا يمكن أن يكون مؤثّرا بشكل فعّال في نسبة المشاركة سواء بالنسبة للانتخابات البرلمانية أو الرئاسية. أودت الصراعات السياسية إلى توسيع دائرة التشاؤم في حدوث تغيير ودفعت فئات كثيرة إلى الانكماش ومقاطعة المحطات السياسية المختلفة، وهو ما أبانت عنه الانتخابات المحلية 2018. لكنها أحدثت حراكا من نوع آخر داخل الأحزاب والطبقة السياسية. هناك محاولات للتجديد بغاية الخروج من النفق، لكن تلك المحاولات لم تفض في أغلب الحالات سوى إلى انشقاقات وصراعات واستقالات. وباتت الطبقة السياسية مستنفرة تقوم وتصبح على ردود الفعل والبيانات القوية، ما يعكس خوفا من المستقبل بما في ذلك حركة النهضة التي تضعها استطلاعات الرأي في مرتبة أولى بشكل شبه دائم. لا نشك لحظة في أن تلك الاستطلاعات موجهة ومرتبة وفق حسابات سياسية يجري ترتيبها لصياغة مشهد ما بعد الانتخابات القادمة، وهي تختلف إلى حد كبير عن التوازنات القائمة حاليا. انزعاج النهضة المثير للجدل هو دخول حركة النهضة وحليفها السابق الباجي قائد السبسي في معركة شيطنة الاستطلاعات، ما يعني شعورا بالخطر من المرحلة القادمة، وخاصة بالنسبة للنهضة التي دأبت على التعاطي بصمت مع المواقف أو الاستطلاعات سواء التي تمتدحها أو التي تنتقدها وتتحدث عن تراجع شعبيتها. ما الذي يجري إذا حتى تتحدث النهضة بغضب عن تزوير إرادة الناخبين ومحاولة تقزيم نفوذها؟ من الواضح أن انزعاج النهضة من الترتيبات التي تعكسها الاستطلاعات ليس موقفا مباشرا من واضعي الاستفتاء ونوعية العينات التي اختاروها، وهل يمكن اعتبارها ممثلة للتنوع الاجتماعي ومقياسا لنوايا التصويت. يبدو البيان الغاضب من مراكز صناعة الاستطلاع تعبيرا عن ردة فعل تجاه نقاشات تجري من وراء الستار سواء داخل النهضة، أو بين الدوائر التي كانت النهضة جزءا من لعبتها في تنفيذ سياسة التوافق ما بين 2014 و2018. بمعنى أكثر وضوحا، فإن الغضب الذي تبديه الحركة، التي كانت توصف بأنها اللاعب رقم واحد، وجوكير رهانات دوائر محلية وأجنبية خلال السنوات الماضية، يجري الترتيب لاستدارة نوعية تجاهها، والبحث عن توليفة جديدة لحكم تونس ما بعد 2019 لن يكون للنهضة فيها نفوذ. وتقول أوساط تونسية متابعة لحراك دوائر النفوذ إن تجربة استخدام النهضة في الحكم لم تحقق النتائج التي كانت تلك الدوائر تبحث عنها، فالحركة، ورغم ما قدمته من “تنازلات مؤلمة” لم تغادر مربعها القديم، مع استمرارها في ورقة توظيف الخطاب الديني وهيمنتها على المساجد ووزارة الشؤون الدينية.مسعاها للفصل بين الدعوي والسياسي لم يغيرها ولم يغير نظرة الآخرين لها. مع العلم أنه فصل منهجي، أي فصل وظيفي وليس فصلا فكريا، ما يعني أن الدعوي خزان احتياط لدى الحركة تستعمله ورقة ضغط على الخصوم مثل التحركات الاحتجاجية على مشروع قانون المساواة في الميراث إبان فترة البرود بينها وبين الباجي قائد السبسي الذي لوّح في وجهها بورقة الاغتيالات السياسية. لكن العامل الأبرز في مراجعة دوائر النفوذ المالي ودوائر الدولة العميقة لاستمرار الانفتاح على النهضة وتسخيرها لإحداث توازن سياسي في البلاد بمواجهة اليسار واتحاد العمال، هو تبدل المزاج الدولي والإقليمي بشكل شبه بات تجاه حركات الإسلام السياسي، وخاصة الحركات والأحزاب ذات الخلفيات الإخوانية. ودوائر النفوذ في الدولة العميقة، التي لها تشابكات مصالح خارجية معقدة، لن تقف بوجه موجة استهداف الإخوان التي يلوح بها البيت الأبيض، خاصة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتعامل مع حظر الإخوان كجزء من حزمة خيارات متكاملة في المنطقة من تركيا إلى السودان إلى ليبيا، ولن يكون إسلاميو تونس فيه سوى تفصيل صغير لا شك أنه سيلغي الانفتاح السابق والحذر لواشنطن على النهضة. وما يزيد من حدة الانزعاج لدى قيادات النهضة أنها ستجد نفسها خارج “الحظوة” التي وضعت لها طيلة أربع سنوات بعد أن قدمت الكثير من التنازلات لأجل الوصول إليها، إذ خسرت جزءا كبيرا من جمهورها التقليدي. كما عرفت انسحابات صامتة وانكماشا لدى قيادات وسطى وأخرى محلية بسبب تبدل الهوية التقليدية وغلبة البراغماتية تحت مسوغ أن الخيار المدني هو مستقبل الحركة، وضرورة التخلي عن الهوية التقليدية للإسلام السياسي الذي بات مثار شبهات حتى بين قياديين “متحررين” داخلها. وفي سياق “تجميل” صورة الانفتاح والاندماج داخل المجتمع بالهوية الجديدة فتحت أبوابها أمام المستقلين وبوأتهم مواقع متقدمة في مؤسساتها ورشحتهم بالتساوي مع منتسبيها في الانتخابات المحلية. لكن هذا الخيار بدأ يأتي بنتائج عكسية من خلال استقالات وحل مجالس محلية (بلدية) محسوبة على النهضة بسبب خلافات بين المستقلين وأعضاء الجماعة. صعود الشاهدتتركز ردود الفعل السياسية في الأسابيع الأخيرة على الحظوة التي بات رئيس الحكومة يوسف الشاهد يتمتع بها في وسائل الإعلام، خاصة العمومية، وزادت حدة تلك الردود بعد الصعود اللافت له ولحزبه في استطلاعات الرأي المختلفة، ما قد يجعله الرجل رقم واحد في المستقبل القريب سواء كمرشح فوق العادة للرئاسة رغم أن المنصب محدود السلطات، أو للاستمرار في رئاسة الحكومة، لكن هذه المرة من موقع رئيس الحزب صاحب الكتلة البرلمانية الأولى أو الثانية، تماما مثلما كان الوضع لقائد السبسي ونداء تونس. وأعتقد أن المسألة أبعد من توظيف استطلاعات الرأي وتوجيهها لخدمة رئيس الحكومة. ليس هناك شك في أن استطلاعات الرأي في تونس يتم الاشتغال عليها سياسيا، أي توظف بشكل أو بآخر لخدمة هذه الشخصية أو الحزب مثلما حصل مع الرئيس الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس في انتخابات 2014. وتساعد استطلاعات الرأي الموجهة على تركيز الأنظار إلى شخص بعينه أو حزب معين مثل التضخيم الذي يجري الآن مع الشاهد وحزبه “تحيا تونس”، حيث عمل منظمو الاستطلاعات على تصعيده بشكل تدريجي، وبعد أسابيع معدودة بات الشاهد رقما مهما في سباق الرئاسة و”تحيا تونس” ثاني استطلاعات الرأي. لكن صعود الشاهد يعود إلى عناصر أخرى غير توظيف الإمكانيات التي يوفرها له وضعه كرئيس حكومة، وخاصة نفوذه على الإعلام. وأهم عنصر في تحول الشاهد إلى شخصية محورية هو نجاحه في حسم الصراع مع المدير التنفيذي السابق لنداء تونس حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس الذي عمل على التحكم في الحكومة والحزب من وراء الستار ليخسر النفوذ في الحكومة والحزب بشكل شبه كامل في ظرف سنتين. وقاد تراجع قائد السبسي الابن والخلافات التي أحاطت بمحاولات تثبيت نفوذه إلى خسارة مؤثرة في رصيد الرئيس التونسي، الذي قاد في 2013 و2014 جهودا لتوحيد قوى ليبرالية ويسارية مختلفة لبناء جبهة مدنية واسعة نجحت في استعادة السلطة من أيدي الإسلاميين، لكن هذه الجبهة انقسمت إلى شظايا بعضها بسبب حافظ قائد السبسي، والبعض الآخر بسبب التحالف مع النهضة، فضلا عن صراع التموقع الذي سيطر على نداء تونس، وهو الصراع الذي أفقده أبرز مؤسسيه ووجوهه التسويقية كقوة حداثية بوجه الإسلاميين. مؤشرات كثيرة تتجمع لتوحي بأن الشاهد يسعى للعب الدور التجميعي الذي لعبه الباجي قائد السبسي، أي بناء جبهة مدنية ضد النهضة، ولكن بمواصفات مغايرة نسبيا للجبهة القديمة، وتقوم على فكرة إنقاذ تونس ليس من نفوذ الإسلاميين، فذلك يبدو أنه سيتم كنتيجة طبيعية، ولكن من الأزمة الاقتصادية الحادة وتردي الخدمات وارتفاع الأسعار. وهذا الخطاب قادر على تحريك الشارع لتوجيه البوصلة في الانتخابات، خاصة بين الفئات الشبابية، والفئات المهمشة التي يجري الاتصال بها بشكل موسع وممنهج، لحثها على الاستعداد للمشاركة بكثافة في الانتخابات. ويراهن الشاهد على استقطاب كفاءات إدارية شابة وذات مستويات علمية عالية لإقناع الناس أن أزمة الثماني سنوات ترتبط بالطبقة السياسية التي استغرقت جهودها في تصفية الحساب الأيديولوجي ومعارك التموقع، وأهملت قضايا الناس، فضلا عن أنها لم تكن تمتلك مقاربات اقتصادية عملية للخروج بالبلاد من أزمتها. ورغم أن الشاهد جزء من الطبقة القديمة، لكنه قادر على تبرئة نفسه من ورطة التموقع القديم طالما أنه يراهن على طبقة صاعدة من التكنوقراط العارفين بتفاصيل الإدارة ومسالكها، ولديهم قدرة على إثارة ملف الفساد وتحريكه بميزان دقيق يوازن بين التلويح بالعصا والرغبة في عدم إخافة الحيتان الكبيرة. تشابه في المشاريعيعاب على الشاهد أنه تلميذ وفيّ للصناديق المالية الدولية، وأنه سيفكك مؤسسات القطاع العام ويبيعها للقطاع الخاص في سياق الإصلاح الهيكلي، لكن المشكلة الأكبر أن لا بدائل للأحزاب الفاعلة أو حتى للمجموعات السياسية الصغيرة التي تدافع عن نموذج الاقتصاد الموجه الذي تحتفظ فيه الدولة بدور الأب الذي يوفر كل المستلزمات لأبنائه الأشقياء ليستمروا في لعبة الشعارات. لا يعدو الملف الاقتصادي أن يكون مجرد فكرة هلامية في برامج “الفرق الناجية” التي توحي شعاراتها بأنها تمتلك مفتاح الإنقاذ، فيما تركز كل تلك المجموعات الصغيرة على استثمار غضب الناس من التحالف الحكومي بين النهضة والنداء في مرحلة أولى، ثم لاحقا بين النهضة والشاهد. إن الهجوم على الشاهد يزيده قوة، والهجوم على النهضة يقوي حظوظها في استطلاعات الرأي. ببساطة لأن موجة النقد والتشاؤم العالي تنفّر الجمهور المحايد وتقوي بالتوازي حماس الأنصار.. فعلى الأحزاب الصغيرة والمجموعات الحالمة بدور تحت الشمس أن ترفع منسوب التفاؤل بين الناس ليشاركوا بحماس في الانتخابات من خلال عرض برامج عملية تفصيلية تهم حياة الشعب وأن تتخلى عن استراتيجية هدّ المعبد على الرؤوس لأنها ستكون أول ضحاياه. وبانتظار أن تطور هذه المجموعات أداءها وتبحث عن رؤى تميزها، ستظل لعبة التكتلات الظرفية هي المحددة في مستقبل المشهد السياسي، وهو ما يحيل إلى الحراك الذي يتم على أكثر من واجهة لبناء جبهات على الحد الأدنى المشترك. ومن هذه الجهود التحرك الذي يقوده الرئيس قائد السبسي في محاولة لاستعادة الشقوق التي تفرعت عن النداء لتلتف حول المجموعة التي يقودها نجله حافظ بعد إحداث توازن ليس مع النهضة، ولكن مع الشاهد الذي يسابق بدوره الوقت لاستقطاب “المجموعة الشرعية” التي أفرزها مؤتمر نداء تونس قبل أن يصنع حافظ قائد السبسي “مجموعة شرعية” من ذات المؤتمر، لكن في اجتماع مواز.
مشاركة :