نِعِمَّا رِجالٌ عرفتُهُم (12): الشيخ بداح بن خليفة البداح

  • 5/11/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الشيخ بداح بن خليفة البداح 1346-1432هـ يقول الشاعر بهاء الدين زهير رحمه الله: وما ضاقتِ الدُّنيا على ذي مروءةٍ =ولاهي مسدودٌ عليها رِحابُها فقد بشَّرتني بالسَّعادةِ هِمَّتي = وجاء من العلياء نحوي كتابُها أجل هي البشارة بالسَّعادة كما قال البهاء زهير لأهلِ المروءةِ،أهلِ الفضل،حيث تحملهم مروءتهم على بِساط ريحها إلى آفاق المعالي ، لِتُبْلِغهم قِممَ المجد ،أجل هكذا دأبُ المروءة التي جمعت مكارم الأخلاق . أمَّا المروءة فهي خُلُقٌ عربيٌ أصيل ، تميَّز به العربُ عن غيرهم من الشُّعوب،حتى أنَّ كثيراً من اللغات لا تملك مُرادفاً لكلمة المروءة وقد أكَّد عليه الإسلام ،وحثَّ عليه،وبارك الفِعلَ والفاعلَ ،فهذه أمُّ المؤمنين السَّيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لما نزل الوحيُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة، رجع إلى خديجةَ رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: ((لقد خشيتُ على نفسي!))، فقالت له رضي الله عنها: “كلَّا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”؛ أخرجه الشيخان، واللفظ لمسلم هكذا كانت أخلاقُ المصطفى قبل البعثة صلةٌ ونجدة،وبرٌ ومعروف،وكَرَمُ وجُودٌ،ووفاءٌ وأمانةٌ، ومروءةٌ وشهامة صلى الله عليه وسلم، فلا غرو أن قال المولى سبحانه في وصفه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “وإنَّك لعلى خُلُقٍ عظيم “سورة القلم (4) وقد قيل للتابعيِّ الجليل سفيان بن عيينة قد استنبطت من القرآن كلَّ شيءٍ فهل وجدت المروءة فيه فقال مع قوله تعالى: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” (199 سورة الأعراف ). أمَّا سُفيان الثَّوري فقد جعل المروءة مبنيَّةً على ركيزتين عندما سُئلَ عنها فقال: هي (الإنصافُ من نفسك ، والتَّفضُّلُ للَّه تعالى )إنَّ الله يأمُرُ بالعدلِ وهو الإنصاف،والإحسان وهو التَّفَضُّلُ ولايتمُّ الأمرُ إلا بِهِما ولعليِّ بن الجُهْمِ أبياتٌ رائعة في المروءة في معانيها ومبانيها، حيث يقول : هي النَّفْسُ ماحَمَّلْتَها تَتَحَمَّلُ = وللدَّهْـرِ أيَّــامٌ يجُورُ ويَعْدِلُ وعاقبة الصَّبرِ الجميلِ جميلةٌ = وأفْضَلُ أخْلاقِ الرِّجالِ التَّفَضُّلُ ولاعارَ إن زالت عن الحُرِّ نِعْمَةٌ= ولكنَّ عاراً أن يزولَ التَّجَمُّلُ وماالمالُ إلَّا حسرةٌ لوتركتَهُ = وغُنْمٌ إذا قدَّمْتَـــهُ مُتَعَجِّلُ وللخَيْرِ أهلٌ يَسْعَدونَ بِفِعْـلِهِ = وللنَّاسِ أحوالٌ لهم تِتَبَدَّلُ أي والله للخير أهلٌ يسعدون بفعله وهم أولئك الذين تسري المروءة في عروقهم،وتعيشُ في أخلاقهم ، لتتجلَّى في أفعالهم وصلاً ونجدةً ، وبراً ومعروفاً ،ونِعِمَّا قول الشاعر في ذلك: ولم أرَ كالمعروفِ أمَّا مَذَاقُهُ= فَحُلْوٌ وأمَّا طَعْمُُهُ فَجَميلُ ولعلِّي أرى فيما قيل قبل صورةَ رجُلٍ فاضلٍ جَسَّدَ المروءة وتَحَلَّى بصفاتها،لتتجلَّى أمامي شاخصةً في حالهِ وأحواله،وسيرتهِ وأفعاله إنَّهُ الشَّيخ بداح بن خليفة البداح رحمه الله ،سليل أسرةٍ كريمة الأصل ،عريقة المحتد،سادت بالخُلُق الرَّفيع وكريم الخِصال،والتي جمعت المروءة والحِكْمة،والحِلمُ والجود أجل حيث جَدُّهُ بداح أبو خليفة كان من رفقاء الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه ،وأصدقائه المُخلصين ،ومن الذين استشهدوا في معركة كنزان وقد قيل حينها لمَّا استشهد جَدُّه(هذه الذَّبيحة السَّمينة). أمَّا والدُهُ خليفة رحمه الله فكان وجيهاً من وجهاء الأحساء ومن أصدقاء الملك سعود رحمهما الله تعالى وذات مرةٍ لما زارت إحدى زوجات الملك عبد العزيز طيب الله ثراه زوجة الجد خليفة وعمَّته عائشة وكان الشيخ بداح حينها رضيعاً كثير البكاء فلما رأت زوجة الملك عبد العزيز رحمها الله كثرة بكائه، طلبته من أمِّه لإسكاته فأخذته وأرضعته وكان على صدرها حينئذٍ الأميرة هيا بنت الملك عبد العزيز شقيقة كل من الأمير ماجد، والأمير سطام، والأميرة سلطانة أبناء الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وقد كان الشيخ بداح دائم الزيارة لوالدته من الرضاعة زوجة الملك عبد العزيز وكان يحضُّ ابنه الأخ الفاضل الأستاذ عبد المحسن على زيارتها إذا قدم للطائف وقد فعل وزارها في الطائف وسألته عن أبيه ابنها من الرضاعة وجميع الـأسرة رحمها الله وطيب ثراها. هذه الأسرة الكريمة آل البداح موزَّعة بين الكويت والمملكة وعلى صلةٍ بآل الصَّباح في الكويت أيضاً وإحدى بنات البداح في الكويت هي زوجة الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله الدَّاعيةُ الأُمَّةُ الذي أسلم على يديه بتوفيق الله في أفريقيا أكثر من أحد عشر مليون نسمة هداهم الله على يديه وكانت زوجته من آل البداح نِعِمَّا الزَّوجةُ والمُعِينُ والرَّفيقُ والشَّريكُ له في حِلِّهِ وتَرْحَالِهِ في السَّرَّاء والضَّرَّاء فجزاها الله خيراً هي وزوجَها العالِمَ العَلَمَ ،الدَّاعيةَ الذي لايُبارى وجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء. أمَّا الشيخ بداح بن خليفة البداح فرجلٌ تسري المروءة في عروقه، وتتجلَّى من خلال سيرته العطرة، وخدمته للقاصي والدَّاني ،ونفعه للناس عرفهم أم لم يعرفهم، كان رحمه الله وضيءَ الوجه، طَلْقَ المُحَيَّا، نحيلَ الجسم ،تُسرُّ بلُقياه، وتأنسُ بمحيَّاه،وتسعد بمعرفته،في وجهه إشراقٌ وبهاء ،كان يُراجعني وابنه عبد المحسن وحفيده بداح والأسرة الكريمة في عيادتي الخاصة،وتَشَرَّفت بمعرفتهم ،وَسَعِدْتُ بالتَّعاملِ مع أمثالهم ، ولم تنقطعْ صِلتي بهم .وقد كان الشيخ بداح بن خليفة البداح باراً بوالديه حدَّ الذُّهول،لايفارقهما ، ويسعى لرضاهما بكل خليةٍ من خلاياه وقد كان يحمل أُمَّهُ في فصل الصيف على ظهره للسطوح بعد العشاء لعدم استطاعتها الصعود للأعلى ولتخفِّف وَطْئَ الحرارة عليها بالنوم على السطوح،ليعيدها بعد النوم على ظهره للأسفل بعد صلاة الفجر ،هكذا كان كل يوم وهذه مما حدَّثنيه الأستاذ عبد المحسن ،وقال هي بر سَلَف، لأنها ستعود له، وقد وجد بفضل الله ذلك في أبنائه جميعهم نجله الأكبر الأستاذ الفاضل عبد الله ونجله الأصغر سعد ونجله الأوسط الأخ الفاضل عبد المحسن الذي شهد له الغير ببرِّهِ لوالديه الذي فاق الوصف،وقد عُرضت عليه وظيفة مُغرية في أرامكو ينتقل فيها للخبر مبتعداً عن أبيه فرفضها ،ليس هذا فحسب بل تسابقه زوجته المصون في برِّها له . رحمه الله كان الشيخ بداح دمث الأخلاق، راقي التَّعامل، خفيف الظِلَّ ، لا يُحبُ إزعاج أحد في شيء حتى أبناءه حتى أنَّه أهمل عينيه لعدم رغبته في إزعاج أحد فتنبَّه لذلك الأستاذ عبد المحسن الذي يقيم معه ويقتطف ثمار الرِّّضى بوجوده وقام بالواجب ولولا تنبهه لذلك كاد الشيخ بداح أن يفقد عينيه . وكان الشَّيخ بداح بارَّاً واصلاً للجميع للرَّحم ، وأهله ،وقراباته، وأصدقائه، ومعارفه ،لايقطع أحداً،ولايردًّ سائلاً،وماطرق بابه أحدٌ عرفه أم لم يعرفه إلا أعطاه بُغيته ،ونال مُبتغاه،وذات ليلة طرق بابه سائل وطلب ديناً فماردَّه، فقال له ابنه الأستاذ عبد المحسن ألا توثِّق ذلك بورقة لضمان حقِّك،فقال له الشيخ بداح ياولدي ماعند الله لايضيع وهو يعرفه ليحدثه بقول الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما : (من كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج اللَّه عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره اللَّه يوم القيامة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وذات مرةٍ جاء ضيوفٌ لصهره زوج ابنته الكبرى الأستاذ القدير والأخ الفاضل أحد روَّاد الكشافة في المملكة الأستاذ عبد المحسن المديرس حفظه الله والذي تربطني به صداقةٌ وصحبةٌ وكان أحد مرضاي الذين يتردَّدون على عيادتي ونعمَّا هو أخاً وصديقاً وصاحباً وتعاملاً أجل جاءه ضيوفٌ من الكويت وهم د.جاسم المديرس وأولاده ،ولم يكن حينها موجوداً ،حيث كان مسافراًمع عائلته إلى كندا ،ولاعلم لضيوفه بذلك ، فقام الشيخ بداح بن خليفة البداح بترتيب أمر الضيوف وقام نجله الأستاذ عبد المحسن بترتيب أمر استقبالهم في الفندق مع أولاده، وتم ترتيب أمر الدعوة والوليمة في مزرعة الأستاذ عبد المحسن المديرس حفظه الله وتمَّ التنسيق في ذلك بين الشيخ بداح رحمه الله وابنه الأستاذ عبدالمحسن حفظه الله وقد قدمت ابنته الفاضلة زوجة الأستاذ عبد المحسن إلى رحمة الله قبل سنةٍ غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته وبورك بهم من أسرةٍ كريمةٍ فاضلة . عمل اليخ بداح رحمه الله في مصلحة المياه في قسم المشتركين وكان دأبُهُ خدمة الناس ،والتيسير عليهم ،وقضاء حاجاتهم ،وتسهيل أمورهم، وكان يرى البعض ينقصه مبالغ لدفع فواتيره فكان يُكمل لهم ماينقصهم ،وكم …وكم، وقد حكى لي أحد جيرانه أن الفواتير كانت تأتي قبل وتترك بجانب بعضها بجانب العدادات خارج البيت فكان يأخذها كلها ويدفع عن جيرانه حتى اكتشفوا ذلك ذات مرة عَرَضاً. وكان يستقبل ضيوفه بين العشائين مساء الإثنين من كل أسبوع ومازال المجلس قائماً برعاية نجله الأستاذ عبد المحسن حفظه الله الذي حدَّثني قائلاً :جاءني بعد سنتين من وفاته ثلاثة رجال اثنان من معارفه والثالث لاأعرفه يريدون تعزيتي بالوالد رحمه الله بعدما نما لعلمهم الخبر فحدَّثنا الأخير قائلاً: جئت للمصلحة وكنت مهموماً لصعوبة تصريف معاملتي فرآني الشيخ بداح فقدم إليَّ وأخذ المعاملة وأنهى الإجراءات وسدد الرسوم، وأعطاني إياها منجزةً، وقال لي توكَل على الله ولم يأخذ مني شيءفقال له صاحبنا : (يَسَّرالله عليك حيث كنت في هم ففرَّجت عليَّ فرَّ ج الله همَّك كما فرَّجت همي) رحمه الله وماكان مايفعله عن سعةٍ في المال، ولكنها سعةٌ في الفضل، ونُبلٌ في الطِّباع،ومروءةٌ تجري في العروق كما قال الشَّاعر: (وأفضلُ أخلاق الرِّجالِ التَّفَضُّلُ ) ويقول نجله الأستاذ عبد المحسن حفظه الله: رغم أنَّه كان كذلك ولم يكن لدينا موردٌ آخر إلا الراتب إلا أننا ماشعرنا بنقصٍ أو احتياج أوضيق بل كانت السَّعة والسَّعادة من مولانا واسع الفضل والعطاء . كان الشيخ بداح رحمه الله دمث المعشر ، طيِّب القلب، ودوداً ،أنيساً، الجودُ طبعُهُ ،والمروءةُ جِبِلَّته،حِسُّهُ الجمال،ودأبُهُ الوصال، مُحبَّاً لأهل الخير والصَّلاح،دائم التواصل مع الأرحام ،والقرابات ،والصَّحب، والجوار، وكان لديه مفكرة صغيرة فيها كلُّ أرقام الهاتف، ولما كبر سنًّه ،ورقَّ عظمه ،وضعُفَ نظره ،وكَلَّ بَصَرُه،لم يعد ممكناً رؤية أرقام الهاتف ،وشقَّ عليه التَّواصل والاتصال ،فقام نجله الأستاذ عبد المحسن بكتابتها من جديد بخطٍ كبير في مفكرةٍ كبيرة مسجلاً جميع الأرقام الموجودة فيها، فلمَّا رآها الشيخ بداح رحمه الله قال: (أنت سوِّيت لي جميل ما أنساه لك ياولدي) وكان يتصل على القريب والبعيد والصَّحب والمعارف ،ولاينسى أرحامه في الكويت ،وأبناءهم في الاغتراب حتى أن أحدهم قال الشيخ بداح يتصل علي من السعودية في الشهر عدة مرات للاطمئنان عليه وهو في أمريكا وكانت فاتورة الهاتف عنده خيالية ،وقد حدَّثني أحد جيرانه الذي جاوره لعقود وهو الأخ الحبيب والأستاذ الفاضل ياسين مرزا حفظه الله عن مروءته وخُلُقِه، عن كرمه وجوده،عن فيوض مشاعره، ودفق أحاسيسه وجيرته التي لم يجد مثلها ولاتُعَوَّض ،حيث كان بحنوه عليه ومحبَّته له كأبٍ لابنه رحمه الله وطيَّب ثراه. وقد ابتُلي الشيخ بداح قبل وفاته هو وابنه الأستاذ عبد المحسن بفقدان سميِّه وحفيده بداح عبد المحسن البداح الابن الوحيد للأستاذ الفاضل عبد المحسن حيث كان القدر على موعدٍ معه في ملعب الكرة بتاريخ 2/8/1431هـ فكان أن اصطفاه الله واختاره وكان الصَّبر والرضى والاستسلام للقضاء هو حال آل البداح ،رغم عظم المُصاب، فلله ماأخذ، وله ما أعطى ،ولانقول إلا مايُرضي ربَّنا والحمد لله على كلِّ حال وبعد ثمانية أشهر ٍ من وفاة الحفيد رحمه الله وبتاريخ 2/4/1432هـ كان موعد الأجل مع الجد الشيخ بداح خليفة البداح رحمه الله الذي ترك أجمل الأثر بما خلَّفتهُ بصماته من أعمالٍ جليلة، و فوَّحته أعماله في مزرعة حياته من روحٍ وريحان و أريجٍ وطيب وكأني بحديثي عن هذا الشيخ الفاضل أتذكر حديث المصطفى عليه الصلاة والسَّلام الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: “الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله” رواه البزَّار والطَّبراني لأجده ممن كانوا كذلك و ممن نفعوا الخلق وتركوا أروع الأثر في حياته، وليتنا نقتدي بأمثال هؤلاء في خدمتهم لمجتمعهم وبلدهم. رحم الله الشيخ بداح خليفة  البداح وحفيده وجميع المسلمين رحمةً واسعةً ،وعوض آل البداح خيراً في الدارين فيمن رحل إلى الدَّار الآخرة، وجمعنا معهم في مستقر رحمته،و إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ..

مشاركة :