الحراك السوداني السلمي الذي أطاح بالفريق عمر أحمد حسن البشير لم يأت من فراغ بل هو نتيجة طبيعية لحراك الشعب السوداني الشقيق على مدار عقود من الزمان كان خلالها الشعب السوداني يناضل من أجل الحرية ومن أجل حياة أفضل بالرغم من عمليات القمع القاسية والاعتقالات والأساليب الوحشية التي استخدمت للقضاء على أي تحرك شعبي من قبل الحكومات المختلفة التي تعاقبت منذ استقلال السودان قبل أكثر من ستين عاما، إلا أن الحراك الأخير حقق للشعب السوداني ما أراد وذلك بفضل التضحيات التي قدمها والدماء التي سالت على طريق النضال الوطني لنيل الحرية وبناء السودان الجديد الديمقراطي الذي يتمتع فيه الإنسان السوداني بكامل حريته على أرضه وترابه الوطني يعيش بكرامة واحترام بعد صبر ومعاناة استمرت ثلاثة عقود تحت حكم البشير. الحراك السوداني الأخير الذي أطاح بالبشير كان للعامل الاقتصادي دور أساسي في هذه الهبة الجماهيرية التي عجلت بإسقاط النظام، فالغلاء وصل إلى مستويات قياسية لم يسبق لها مثيل وإلى درجات عالية فاقت إمكانيات المواطن السوداني الذي لم يستطع تحملها سواء أسعار المواد الغذائية أو المحروقات مع تراجع سعر صرف الجنيه السوداني فضلا عن تردي الخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة للمواطنين، بالإضافة إلى تراجع القدرة الشرائية للناس في هذا البلد العربي الإفريقي الشقيق الذي حباه الله بخيرات طبيعية وثروات حيوانية وزراعية بل حتى نفطية لكن مع الأسف لم تستطع البلاد الاستفادة من كل هذه الثروات وتسخيرها وتوظيفها في تحسين مستوى معيشة الشعب السوداني بسبب سوء الإدارة، الأمر الذي أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من المواطنين ومن الكفاءات الوطنية إلى الخارج إلى دول الجوار أو إلى الدول الغربية وغيرها بحثا عن مصدر آخر للرزق بعد أن أغلقت الأبواب ومصادر الرزق أمامها في بلادهم وانسداد الآفاق وانعدام الفرص المتاحة للعيش الكريم. إلا أنه من الملاحظ وبعد مرور شهر تقريبا على الإطاحة بنظام البشير أن الناس لا تزال موجودة في ساحة الاعتصام للمطالبة برحيل كل رموز النظام القديم وتسليم السلطة لإدارة مدنية بعد أن سيطر الجيش على السلطة بعد سقوط النظام في إطار حماية أمن واستقرار البلاد من الفوضى التي قد تحدث بسبب الفراغ السياسي بعد الإطاحة بالبشير بل إن هناك دعوات إلى العصيان المدني وهذا أمر في منتهى الخطورة وخصوصا في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها السودان والتي تتطلب تضافر الجهود لتجاوز هذه المرحلة بسلام لتحقيق الأهداف المرجوة من انتفاضة السودانيين. كل المؤشرات تؤكد أن هناك خلافا بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير وحلفائها هذا الخلاف الذي يثير المخاوف والقلق على مستقبل البلاد وعلى الحراك الشعبي على حد سواء، وبناء عليه فإننا نعتقد أنه على الجميع تحمل مسؤولياته الوطنية مع الأخذ بعين الاعتبار أن الجيش السوداني هو صمام الأمان لحفظ الأمن والاستقرار في البلاد ومن دونه يعني الفوضى والخراب والدمار، فحماية البلاد بالدرجة الأولى هي مسؤولية الجيش الوطني الذي لا يزال قادرا على القيام بواجبه في حماية البلاد من الانزلاق وهذه نقطة مهمة لا نعتقد أنها خافية عن قوى الحرية والتغيير في المقابل يجب أن يدرك أيضا المجلس العسكري أن مطالب قوى الحرية والتغيير عادلة وشرعية وأن السلطة يجب أن تسلم لإدارة مدنية لأن زمن الانقلابات العسكرية والحكم العسكري المطلق قد ولى ولن يرضى به العالم، وقد رأينا ذلك في ردة الفعل السريعة من جانب الاتحاد الإفريقي الذي أعطى مهلة للجيش مدتها ثلاثة شهور لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية لإدارة البلاد مع الاحتفاظ بمسؤولياته الأساسية وهي حماية الأمن والاستقرار من التهديدات الداخلية والخارجية كما أسلفنا. إذن على الطرفين تحمل مسؤولياتهما التاريخية أمام الوطن وأمام الشعب ووضع مصلحة السودان العليا فوق كل اعتبار حتى يتمكن الشعب السوداني الشقيق من قطف ثمار تضحياته ونضالاته لبناء السودان الجديد على أسس وقيم ومبادئ العدالة والمساواة والديمقراطية والحرية وبدء مرحلة جديدة من البناء والتنمية وإعادة بناء الاقتصاد والاستثمار الأمثل لخيرات البلاد وتسخيرها لرفاهية الشعب السوداني وتحسين مستوى معيشته وحل مشاكله وصعوباته من خلال التوصل إلى تفاهمات تراعي مصلحة الجميع لأن استمرار الخلاف لن يخدم لا قوى الحرية والتغيير ولا المجلس العسكري لأن البلاد في حاجة ماسة إلى جهود الجميع لوضع حد للمعاناة التي استمرت عقودا من الزمان منذ الاستقلال رغم الانقلابات ورغم تعاقب الحكومات التي لم تستطع حل أزمات البلاد.
مشاركة :