كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ابن أم مكتوم، قد اشتهر بكنية أمه: أم مكتوم واسمها عاتكة بنت عبد الله بن عكاشة، صحابي من أجلاء الصحابة، قد اختلف في اسمه فقيل عبد الله وقيل عمرو، فأهل المدينة يسمونه عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري، أما أهل العراق فسموه عمراً وبه رجح ابن الأثير فترجم له باسم عمرو. وهو من السابقين المهاجرين، وكان ضرير البصر، جاء في ترجمته عند الزركلي، عمرو بن زائدة صحابي شجاع، كان ضرير البصر، أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة بعد وقعة بدر، وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة مع بلال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة، يصلي بالناس، في عامة غزواته، وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة، فقاتل وهو أعمى، ورجع بعدها إلى المدينة، فتوفي بها عام 23هـ قبيل وفاة عمر بن الخطاب (الإعلام 6: 255). لكن الذهبي أورد قول شعبة: عن أبي إسحاق، أنه سمع البراء يقول: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن (سير أعلام النبلاء 1: 261) ومعلوم أن مصعباً قد هاجر إلى المدينة قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وأن معركة بدر قد كانت في السنة الثانية من الهجرة. والزركلي أخذ مقالته تلك، عن هجرة ابن أم مكتوم بعد بدر بيسير عن ابن سعد في طبقاته الذي قال: أسلم ابن أم مكتوم بمكة قديماً، وكان ضرير البصر، وقدم المدينة مهاجراً بعد بدر بيسير، فنزل دار القراء، وهي دار مخرمة بن نوفل، وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم مع بلال (الطبقات 4: 205). فكأنه مال لهذه الرواية عن قناعة منه، رغم أن ابن سعد أورد بعدها روايتين تثبتان هجرته قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فيهما قول إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: كان أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير، أخو بني عبد الدار بن قصي، فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو مكانه وأصحابه على أثري، ثم أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى فقالوا له: ما فعل من ورائك، رسول الله وأصحابه؟ فقال: هم أولى على أثري (طبقات ابن سعد 206). وقد جاء في كتب التفسير أن لعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه صلة بسبب نزول بعض الآيات، فقال السيوطي: وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وأبو داوود وابن المنذر وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه: فقال: اكتب، فكتبت في كتف: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ} إلى آخر الآية، فقال ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضل المجاهدين: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد، فقرأت: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} الآية، قال زيد: أنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف... (الدر المنثور 2: 640). وقد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، لما جاءه ابن أم مكتوم ليسأله، وهو منشغل بمناجاة بعض عظماء قريش، قد طمع في إسلامه قال ابن كثير في تفسيره، ذكر غير واحد من المفسرين أن سبب النزول كما روى ابن جرير: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى، يقال له عبد الله بن أم مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمني مما علمك الله، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه، وتولى وكره كلامه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خفق برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}، فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟»، وإذا ذهب من عنده قال: «هل لك حاجة في شيء؟ «. وذلك لما أنزل الله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى} (تفسير ابن كثير 4: 470). ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد على صلاة الجماعة، فإن عبد الله بن أم مكتوم قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشكو إليه مما يعاني مع فقد البصر، من بعد الدار عن المسجد، وما يعترض طريقه من الشجر، وعدم وجود قائد يلائمه لعله يجد له رخصة في الصلاة في بيته فلم يرخص له، قال ابن سعد في طبقاته أخبرنا يحيى بن عباد قال: حدثنا يعقوب بن عبد الله قال: حدثنا عيسى بن جارية بن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع الأذان، قال عليه الصلاة والسلام: «فإن سمعت الأذان فأجب ولو زحفا، أو قال: ولو حبوا» (الطبقات 4: 208)، ومن هذا أخذ الفقهاء حكماً بوجوب صلاة الجماعة، والتشديد في إجابتها مع جماعة المسلمين بالمساجد في أوقاتها. كما أخذوا حكماً آخر في عدم اقتناء الكلاب، وأنه لا يجوز إلا لمصلحة مرخص فيها ككلب الحراسة وكلب الصيد، حيث ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلاب، ويستدلون بأحاديث منها ما رواه ابن سعد، قال: أخبرنا يحيى بن عباد قال: حدثنا يعقوب بن عبد الله قال: حدثنا عيسى بن جارية عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كلاب المدينة، فأتاه ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله إن منزلي شاسع وأنا مكفوف البصر ولي كلب، قال فرخص له إياها، ثم أمره بقتل كلبه (الطبقات 4: 208). وابن أم مكتوم رضي الله عنه ورد اسمه كثيراً في كتب الفقه، واستشهد الفقهاء بمواقف وحالات له الترجيح رأي فقهي، والكتاني في معجمه لفقه السلف اعتبره من فقهاء الصحابة، كما استشهد به ابن قدامة في أربع عشرة حالة، مما ينبئ عن مكانته وحرصه رضي الله عنه على التطبيق والتوثيق، علاوة على اقتران اسمه عند المفسرين لكتاب الله، بسبب النزول في بعض الآيات الكريمات. ومن الاستشهادات الفقهية: نجد القول: بأن من أذّن لغير الفجر قبل دخول الوقت، أعاد إذا دخل الوقت، قال ابن قدامة: الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما في أن الأذان قبل الوقت في غير الفجر لا يجزئ وهذا لا نعلم فيه خلافاً، وقال به طائفة من أهل الحديث: إذا كان له مؤذنان، يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعده فلا بأس، كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن قدامة: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» متفق عليه (المغني 2: 63) كما يرون أن المؤذن يستحب أن يكون بصيراً؛ لأن الأعمى لا يعرف الوقت فربما غلط، فإن أذن الأعمى صح أذانه، فإن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: «أصبحت أصبحت». رواه البخاري (المغني 2: 69). وقد عقد في كتب الحديث في كتاب الصلاة: باب إمامة الأعمى... وبه استدل الفقهاء على أن إمامة الأعمى جائزة ودليلهم حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى.. رواه أبو داود، وقال الشعبي: غزا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة، كل ذلك يقدم ابن أم مكتوم يصلي بالناس. رواه ابن أبي شيبة في إمامة الأعمى. (المغني 3: 28). ونظر الرجل إلى المرأة الأجنبية من غير سبب محرم إلى جميعها في ظاهر كلام الإمام أحمد، أما نظر المرأة إلى الرجل فقال ابن قدامة فيه روايتان: إحداهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة، والأخرى لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها، اختاره أبو بكر، وهذا أحد قولي الشافعي، لما روى الزهري عن نبهان، عن أم سلمة قالت: كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احتجبن عنه، فقلت: يا رسول الله إنه ضرير لا يبصر، قال: «أفعمياوان أنتما لا تبصرانه» رواه أبو داود وغيره.
مشاركة :