“حرب الناقلات” القديمة تلوح في الأفق بين واشنطن وطهران

  • 5/13/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

قديمة متجددة هي “لعبة المضايق المائية”، حيث تتلاطم فيها الأمواج دوما بحثا عن النفوذ والتأثير، ولا سيما في تلك المضايق التي قد تمثل أهمية استراتيجية عالمية تتجاوز معها الحدود الجغرافية لدولها المحيطة. والآن يتخذ المشهد في الخليج العربي تصعيدا مستمرا في ظل الحرب الكلامية المستمرة بين طهران وواشنطن، والتي قادت بالفعل إلى إعلان البيت الأبيض نشر حاملة الطائرات “يو إس إس أبراهام لينكولن” وقوّة من القاذفات في منطقة القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، والتي ربما تتجه قريبا إلى الخليج العربي. أعقب ذلك تصريح وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بأن الولايات المتحدة رصدت أنشطة إيرانية تشير إلى تصعيد محتمل. جاءت الخطوة الأميركية في أعقاب تهديدات إيرانية بغلق مضيق هرمز بعد دخول العقوبات الأميركية بشأن إلغاء الاستثناءات التي كانت ممنوحة لثماني دول فيما يتعلق بالصادرات النفطية الإيرانية، حيز التنفيذ. هذه التطورات تطرح سؤالا مهما عما إذا كانت المنطقة على شفا حرب جديدة بين الولايات المتحدة وإيران. شرارة الصراع يعيدنا المشهد إلى بداية شرارة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، تلك الحرب الأولى التي تصارع فيها الطرفان في مياه الخليج العربي، في ثمانينيات القرن الماضي، في الفترة 1984- 1988 حين هاجمت إيران والعراق الموانئ النفطية لكل منهما في الخليج وضربتا، بل وأغرقتا 250 ناقلة نفط عملاقة، وذلك في خضم حرب بينهما استمرت لـ8 سنوات وخلفت أكثر من مليون قتيل، وألحقت أضرارا بالغة باقتصاد البلدين. وبينما كانت الحرب بين إيران والعراق تدور رحاها، انحازت الدول العربية- باستثناء الجزائر وليبيا وسوريا- للعراق، فاستفادت الأخيرة من دعمٍ سخي من دول الخليج لتغطية كلفة الحرب الباهظة. أما بالنسبة إلى الفاعلين الدوليين فظل دورهم هامشيا إلى حدود 1986، حين شرعت إيران في استهداف ناقلات النفط الكويتية، فطلبت الكويت حماية أميركية، تردَّدت واشنطن أولا في تقديمها، ثم قررت نشر سفن حربية في الخليج لمرافقة الناقلات الكويتية. وذلك في وقت تبادلت فيه بغداد وطهران مهاجمة السفن المحملة بالنفط لحرمان بعضهما بعضا من عائدات النفط. وفي مايو (أيار) عام 1987، بينما كانت الفرقاطة الأميركية “ستارك” تبحر بهدوء في مياه الخليج العربي، انفجرت فجأة جراء صاروخ “إكسوزيت” أطلقته طائرة مقاتلة تابعة لجيش صدام حسين في العراق ظنا منها أن الفرقاطة هي للجيش الإيراني، قُتل عدد من طاقم السفينة وأصيب كثيرون آخرون. ليبدأ مع ذلك الحدث أحد أكثر النزاعات الغامضة في التاريخ الأميركي، والذي أطلق عليه “حرب الناقلات”. وقعت “حرب الناقلات” في ذروة الحرب الكبرى بين إيران والعراق، خلال السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي، رونالد ريغان. فمع خسارتهم ساحة المعركة، قرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله الخمينى، آنذاك، إغلاق الخليج العربي في وجه السفن المحملة بالنفط العراقي، التابعة للدول الداعمة لصدام حسين، وعلى رأسها الكويت والإمارات. هددت إيران بأنها لن تترك طرق الملاحة آمنة في الخليج إذا ما بقي الطريق إلى مينائها النفطي في جزيرة “خرج” مهدداً، وشهد ربيع عام 1984 مهاجمة السفن الكويتية والسعودية. ففي 13- 14 مايو (أيار) قصفت الناقلتان الكويتيتان (أم القصبة) و(بحرة)، وفي 16 مايو (أيار)، قُصفت الناقلة السعودية (مفخرة ينبع) في ميناء “راس تنورة” السعودي. وبعدها طلب الكويتيون المساعدة من الغرب، وبالفعل أرسلت الولايات المتحدة أسطولا إلى الخليج، رافعين العلم الأميركي فوق الناقلات التجارية الكويتية. الحرب الأولى بين واشنطن وطهران يقول الكاتب الأميركي، لي ألن زاتاريان، في كتابه الصادر في يناير (كانون الثاني) 2009 “حرب الناقلات: أول حرب لأميركا ضد إيران 1987-1988″، إن هذا التدخل أدى إلى ساحة صراع مفتوحة، حيث زرع الإيرانيون الألغام في مضيق هرمز وأطلقوا قوارب هجومية ضد كل من الناقلات والسفن الحربية الأميركية. وبالفعل اصطدمت سادس أكبر سفينة في العالم، الناقلة الأميركية “إس إس بريدجستون”، في 24 يوليو (تموز) 1987، بلغم إيراني وغرقت. وخاضت بعدها القوات البحرية الأميركية أكبر معركة منذ الحرب العالمية الثانية ضد زوارق هجوم آية الله.  في هذه الأثناء، وصلت قوات البحرية الأميركية “سيلز” إلى الخليج لمحاربة الإيرانيين. ويقول الكاتب الأميركي “جلس صدام حسين، الذي حرّض على الصراع، يشاهد إطلاق إيران صواريخ (دودة القز-Silkworm) ضد السفن الأميركية، وهي أعمال، لو تم الإعلان عنها في ذلك الوقت، فسيتطلب من الكونغرس إعلان حرب ضد إيران”، بحسب زاتاريان.  ويقول “في يوليو (تموز) 1988، أطلق البحارة على متن السفينة الحربية (يو إس إس فينسنس) النار على طائرة إيرانية تحلّق في الجو، مما أسفر عن مقتل 300 مدني. جاء هذا الحادث قبل شهر واحد من نهاية الحرب، وربما كان القشة الأخيرة للسيطرة على آية الله”. ويتابع زاتاريان “في أغسطس (آب) عام 1988، رفعت إيران دعوى لوقف إطلاق النار فقط بعد تعرضها لهزيمة كارثية على الأرض ضد القوات العراقية وبعد أن هدّد صدام حسين بإطلاق صواريخ سكود المسلحة برؤوس حربية كيميائية على المدن الإيرانية، خشي الإيرانيون من مواجهة (هيروشيما) ثانية إذا لم يقبلوا الهدنة؛ وتشير تقارير صحفية في ذلك الوقت إلى أنه أُخلي الكثير من سكان طهران خوفاً من هجوم كيميائي عراقي. بالنسبة إلى الخميني، كان قبول الهدنة يشبه (شرب السم)”. ويلفت زاتاريان “الحرب بين إيران والعراق كانت مدمرة. لقد كانت واحدة من أكبر وأطول الحروب التقليدية منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953. فقد قُتل نصف مليون شخص، وربما أصيب مليون آخرين. تجاوزت التكلفة الاقتصادية للحرب تريليون دولار، وكانت أيضا الحرب الوحيدة في العصر الحديث التي استخدمت فيها الأسلحة الكيميائية على نطاق واسع”. التصعيد وإدارة الصراع حرب الناقلات والحرب البحرية بين إيران والعراق شملت نوعين من الصراع البحري المُعقّد: فمن جهة محاولات العراق لإضعاف إيران من خلال تدمير قدرتها على استخدام ناقلات النفط لتصدير النفط، ومن الناحية الأخرى، الوجود البحري الغربي بقيادة الولايات المتحدة في الخليج الذي كان يهدف إلى ضمان حرية مرور الناقلات إلى الكويت وتوفير الأمن العام لسفن الشحن من وإلى دول الخليج المحايدة. كل أشكال الصراع هذه أدت إلى تصعيد كبير. ويقول أنتوني كوردسمان، المسؤول لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS الأميركي، في بحث أعده في مايو (أيار) 1990، إن “(حرب الناقلات) اكتسبت أهمية حقيقية فقط في السنة الرابعة من الحرب. في الوقت الذي تبادل فيه الجانبان استهداف السفن في بداية الصراع، بدأ التصعيد إلى ضربات واسعة النطاق على الملاحة في دولة ثالثة في عام 1984. بعد ذلك، أصبحت (حرب الناقلات) حربا حاول فيها العراق مرارا وتكرارا استخدام الضربات الجوية ضد الناقلات والمنشآت النفطية لإجبار إيران على التسوية. وإيران، بدورها، حاولت الردّ بضربات جوية وبحرية على سفن حاويات وناقلات تتحرك إلى دول تدعم العراق”. ومن ثم يرى كوردسمان، الرئيس الحالي لبرنامج  Arleigh A. Burke Chair in Strategy لدى CSIS، إن “من المهم التأكيد على أن معظم الدروس المستقاة من هذا الجانب من الحرب كانت دروساً في التصعيد وإدارة الصراع، وليست دروساً في التكتيكات والتكنولوجيا فحسب.  قدمت بدايات حرب الناقلات بعض الأفكار المهمة في عملية التصعيد التي ساعدت في تشكيل القتال البحري. فبعد عام 1985، أصبحت (حرب الناقلات) مدمجة بشكل كبير في الهيكل العام للصراع في الخليج، بحيث أصبح من المستحيل فصل القتال البحري عن الأنماط العامة في القتال. غير أن تاريخ حرب الناقلات من 1980 إلى 1984 مختلف، ويقدم مثالا ًمثيراً للاهتمام على كيفية ظهور جانب ثانوي في الصراع، في العالم الثالث، من شأنه أن يغير فجأة تأثيره الاستراتيجي ومعناه بالنسبة إلى الغرب”. الحرب جعلت إيران أكثر تطرفا يقول بروس ريدل، مدير مشروع الاستخبارات لدى مركز بروكينجز، إن “الحرب الأميركية الأولى مع إيران ساعدت في جعل إيران دولة أكثر تطرفاً وتشددا. واحتمال نشوب حرب ثانية قد يفعل الشيء نفسه. وبالتالي، قد تثبت الحرب الأخرى مع إيران لوقف برنامجها النووي في النهاية أنها المحفز الذي يدفع إيران للحصول على ترسانة أسلحة نووية خطيرة. وبدلا من وقف الانتشار النووى، سيتم التحريض عليه أكثر”. ويضيف ريدل في ورقة بحثية، منشورة لدى مركز بروكينجز في مايو 2013، “يصف الإيرانيون الحرب الأولى بـ(الحرب المفروضة) لأنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة عرّضتهم للنزاع ونظمت (الدعم) العالمي للعراق. وأشاروا إلى أن الأمم المتحدة لم تدن العراق لقيامه بشن الحرب ضدها في مطلع الثمانينيات. بينما في الواقع، لم تناقش الأمم المتحدة الحرب لأسابيع بعد اندلاعها، واعتبرت في نهاية المطاف أن العراق هو المعتدي بعد سنوات فقط، كجزء من صفقة عقدها الرئيس جورج بوش لإطلاق سراح الرهائن الأميركيين الباقين المحتجزين لدى حزب الله، الجماعة الشيعية المسلحة الموالية لإيران في لبنان. وعلى الرغم من أن الحرب كانت لها عواقب وخيمة بالنسبة إلى إيران، فمن خلال تصوير الصراع على أنه صراع فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها، عمل القادة الإيرانيون على تعزيز الثورة الإيرانية التي وقعت في عام 1979”. دروس الحرب يقول ريدل إن “الدرس الأساسي للحرب في الثمانينيات هو أنه من السهل بدء صراع مع إيران ومن الصعب للغاية وضع حد له”، لكن ريدل يشير إلى درس آخر من الحرب الأولى وهو أن “إيران لن تخيفها الولايات المتحدة بسهولة. فبحلول عام 1987، دمرت الحرب إيران، ودمرت العديد من مدنها وأضرت بشكل كبير بصادراتها النفطية التي وصلت إلى نقطة ضئيلة، وبالتالي تضرر اقتصادها. لكنها لم تتردد في قتال البحرية الأميركية في الخليج واستخدام وسائل غير متماثلة للرد في لبنان وفي أي مكان آخر. حتى مع غرق معظم قواتها البحرية من قبل القوات البحرية الأميركية، استمرت إيران في القتال واستمر الشعب الإيراني في التجمع خلف آية الله الخميني”. ويخلص ريدل إلى أنه “أمام هذه المعطيات فإن إنهاء أي حرب مستقبلية سيكون تحديا كبيرا، إذ أن التاريخ يشير إلى أن إيران لا تتراجع بسهولة”. وبينما يرى ريدل، الذي عمل مستشاراً أول لشؤون جنوب آسيا والشرق الأوسط  لآخر أربعة رؤساء في طاقم موظفي مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أن “التاريخ بالطبع لا يعيد نفسه، لكنه يمثل قافية. فينبغي النظر بعناية في دروس الحروب القديمة قبل الدخول في حروب جديدة”. ويضيف “نسي الكثير من الأميركيين دروس حربنا غير المعلنة في الثمانينيات. لقد خضنا الكثير من الحروب الأخرى منذ ذلك الحين: في العراق (مرتين) وفي أفغانستان وليبيا. وفي حين أنه قد يكون من السهل على واشنطن أن تنسى، إلا أنه لا يوجد إيراني قد نسي”. غير أن المعطيات الحالية تقول إن إيران باتت في وضع أضعف كثيرا، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، فحالة التضييق التي مارستها الولايات المتحدة على طهران من خلال العقوبات الاقتصادية، طيلة سنوات عدة، أسفرت عن وضع اقتصادي مضطرب، فبيانات صندوق النقد الدولي تشير إلى عام جديد من الانكماش الاقتصادي في إيران. وبحسب مسؤول رفيع في الصندوق تحدث لشبكة “بلومبرغ”، مطلع الشهر الحالي، فإن معدل التضخم ربما يصل إلى متوسط 50%، وهو أعلى مستوى منذ عام 1980. هذه الإحصاءات تتساوى مع غيرها في السودان وفنزويلا وزيمبابوي، البلاد التي تعاني أسوأ الأزمات. وقال سايروس رزاجي، رئيس شركة “آرا إنتربرايز” للأعمال الاستشارية، التي تتخذ من طهران مقراً لها “نحن في أرض مجهولة”. ويضيف “كانت هناك ثورة، حرب. كانت هناك عقوبات سابقة، لكن لم يحدث من قبل الكثير من الضغوط الاقتصادية والدولية على البلاد”. وتشير التوقعات التي صدرت قبل قرار الولايات المتحدة الخاص بالنفط الإيراني، إلى أن إجمالي الناتج المحلى الإيراني سيتقلص بنسبة 6% هذا العام مقارنة بـ4% في عام 2018. وعلى الصعيد الداخلي هناك غضب كامن، إذ تشهد الساحة الإيرانية منذ 2007 مظاهرات تنديدا بارتفاع مستوى المعيشة والفساد المالي المستشري في جميع مؤسسات الدولة. واشتعلت ثورة خضراء عام 2009، عندما قام الشعب بالاحتجاج على ما اعتبره الكثيرون انتخابات مزورة. تم قمع الثورة الخضراء بعنف، لكن لم يتم قمع الثورة في نفوس الناس، إذ تجددت الاحتجاجات في ديسمبر (كانون الأول) 2017، وقوبلت بنفس مستوى القمع.  ويكافح القادة المتشددون في إيران في مواجهة حركة تحرر اجتماعية تتعلق بالكثير من الأعراف، ويواجه قادة إيران معضلة متزايدة حول ما إذا كان يجب عليهم ترجمة التغييرات الاجتماعية إلى قوانين وأعراف جديدة أو محاولة التمسك بالمُثُل التي تعود إلى 40 عاماً من الثورة.

مشاركة :