مع بداية تسليم هيئة الحقيقة والكرامة أرشيفها إلى مؤسسة الأرشيف الوطني، تكون تونس قد أغلقت بشكل شبه نهائي ملف هيئة الحقيقة والكرامة دون أن يعني هذا الأمر إتمام استحقاق العدالة الانتقالية. ومع إعادة العاملين والموظفين الملحقين بالهيئة الدستورية المستقلة إلى وظائفهم الأصلية، يوم 31 مايو الجاري، تكون سهام بن سدرين، رئيسة الهيئة، قد فرضت على الجميع وبلا استثناء، كلمتها ورأيها ومقاربتها، حتى وإن كان في انتصارها الشخصي انحسار لمسار عدالة انتقالية لا يؤصل إلا بمقولة التجميع والتشريك. يقف التونسيون اليوم أمام محصلة ضعيفة لمسار عدالة انتقالية تعلّق به مصير الديمقراطية، وارتهنت به مصائر الذاكرة الوطنية الجماعية في كشف الحقيقة ومحاسبة الجناة ورد الاعتبار للضحايا، ومن ثمة الوصول إلى مصالحة الكل مع الكل. فالدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية تشكو من الغياب المتعمد للمتهمين، وثلة كبيرة ومعتبرة من المؤرخين يشككون في مصداقية الرواية والسردية التاريخية التي قدمتها الهيئة، ولا يوجد ما يؤشر إلى أن الدولة، ممثلة في رئيسها أو رئيس حكومتها، مستعدة لتقديم الاعتذار الرسمي عن الانتهاكات السابقة، وبمعنى أدق لا مقدمات حقيقية لمصالحة جماعية، ولا إرهاصات إجرائية ملموسة للتجاوز الوطني المشترك لأوجاع الماضي القريب. في الأثناء، تقدم حكومة يوسف الشاهد مشروع استئناف مسار جديد للعدالة الانتقالية بنفس جديد، يُكمل ما بدأته الهيئة ويجسر الهوّة النفسية التي أبقتها الهيئة ماثلة أمام التونسيين، وفي الأثناء أيضا تُوجه حركة النهضة سهاما جارحة لهيئة الحقيقة والكرامة متهمة إياها مرّة بـ”العجز عن إيفاء المرأة النهضاوية حقها في التكريم والاعتبار”، ومرة أخرى بـ”القصور عن تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة”، على الرغم من حالة التقارب الوظيفي بين الطرفين على مدى سنوات العهدة. والحقيقة التاريخية أن ملف العدالة الانتقالية كان محل تجاذب سياسي انتخابي أكثر منه ملفّ للذاكرة والتذكير بأوجاع الماضي وندوب السرديات الرسمية، واستثمرت فيه الأحزاب السياسية أكثر من الهيئة بحدّ ذاتها. استثمرت حركة النهضة سياسيا ملف العدالة الانتقالية مرتين على الأقل. الأولى عند رفضها قانون العزل السياسي في 2014، داعية إلى مصالحة تامة مع رجالات النظام القديم. والثانية عند إقرارها قانون المصالحة الإدارية الذي تقدم به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي دعما لرجال الأعمال، فكانت أن تقربت بهذا التصويت من طبقة رؤوس الأموال، وأصلت لتقارب براغماتي (بين الغنوشي والسبسي) استعانت به لتجاوز محنة تكرار السيناريو المصري في تونس. وما كان لحركة النهضة ونداء تونس وغيرهما من الأحزاب الأخرى، أن تستثمر في مسار العدالة الانتقالية، لو تملّكت المجموعة الوطنية العدالة الانتقالية كوسيلة لتبين حقائق الماضي وتجاوز حساسيات الحاضر وبناء المستقبل، ولو نجحت هيئة الحقيقة والكرامة في تحويل العدالة الانتقالية من أداة مكاسرة سياسية ومزايدة أيديولوجية، إلى ثقافة وعقلية للمسامحة والمصالحة. وما كان للأحزاب المعادية للعدالة الانتقالية وإعلامها التابع لها، أن تواصل في مسار التشويه والتعطيل، لو شاهد الرأي العام مسارا انتقاليا هادئا بروافد متنوعة وبنتائج رصينة بعيدة كل البعد عن منطق أدلجة التاريخ أو طمس الذاكرة الوطنية. صحيح أنّ البيئة السياسية والإعلامية التي اشتغلت صلبها هيئة الحقيقة والكرامة لم تكن مواتية لإعادة فتح جروح غائرة لم تندمل بعد، ولكن الصحيح أيضا أن أداء الهيئة عامة، وسهام بن سدرين خاصة، لم يساعدا على تأمين استحقاقات العدالة الانتقالية في البلاد. ولئن كان من العادي أن يقود العدالة الانتقالية وجها مُعارضا للنظام الحاكم السابق (تجربة جنوب أفريقيا والمغرب)، فإنه ليس من العادي ولا العادل أن تُقاد المسيرة بمنطق أحادي، وإلا سقطنا في استعمال الضحية لمنهج الجلاد، وفي تبادل الأدوار الرمزية. وفي معارك القيم الرمزية وعلى رأسها العدالة الانتقالية، يصير انتصار الفرد على المجموعة هزيمة ما لم يقترن النصر بتجميع للكلمة واجتماع للجلاد مع الضحية وتأصيل لوطن جامع. فرضت بن سدرين كلمتها على القضاء الإداري، واشتغلت الهيئة بلا نصاب قانوني، ولم ترجع العضو المطرود زهير مخلوف وباقي الأعضاء إلى مناصبهم، كما أجبرت كافة مؤسسات الدولة على قبول التمديد للهيئة إلى 31 ديسمبر 2018 رغم تصويت البرلمان برفض التمديد ورغم مراسلة رئيس الحكومة في أوائل يونيو 2018 بضرورة تسليم المقر والأرشيف. وفي الوقت الذي كان فيه رئيس الحكومة يوسف الشاهد يُعلن عن فشل الهيئة ويُشير إلى أنه طالب بن سدرين بتسليم الهيئة والأرشيف منذ مدة، كانت الأخيرة تتحضر لتسليمه الأعمال الختامية للهيئة قبل نشره للعموم. وفي الوقت الذي كانت فيه مؤسسة الأرشيف تطالب بن سدرين بتسليم الأرشيف منذ منتصف 2018، كانت الأخيرة تؤكد أن وثائق الهيئة لن تدخل أروقة المؤسسة إلا عقب الانتهاء الفعلي من أعمالها، وبالفعل تمّ لها كل ما أرادت. يبقى السؤال المركزي، هل انتصرت العدالة الانتقالية في تونس، بانتصار سهام بن سدرين على المؤسسات وكافة المنظومة المعارضة لها؟ قد ينتمي هذا السؤال إلى أسئلة المستقبل حيث يحمل الغد لوحده تباشير الأجوبة، لكن الأكيد أنه لم تتوفر مقدمات حقيقية لمصالحة ناجزة ولا لذاكرة جامعة ولا لانتصار التاريخ على السرديات القاتلة.
مشاركة :