بعد أن اخترق التنين الصيني إفريقيا ومن قبلها بعض الدول الآسيوية مد أبصاره أخيرا نحو القارة الأوروبية العجوز، وتحديدا نحو دولها المحورية، بادئا بالحلقة الأضعف وهي إيطاليا، وذلك في مشهد يذكرنا بما فعله أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008 حينما استغل تعثر بعض أقطار أوروبا الهامشية مثل دول البلقان والبرتغال واليونان والمجر للنفاذ إليها عبر استخدام فوائضها المالية الضخمة. مناسبة هذا الحديث هي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج في أواخر آذار (مارس) الماضي إلى روما التي قرعت أجراس الإنذار في واشنطن وكبريات العواصم الأوروبية بما فيها بروكسل "مقر الاتحاد الأوروبي"، بُعيد إعلان قيام روما بالتوقيع على اتفاقيات غامضة مع بكين حول انخراطها في مشروع الصين الطموح المعروف بطريق الحرير، دون أدنى تنسيق أو تشاور مع شريكاتها في الاتحاد الأوروبي. كانت الصين فيما مضى تعتمد في اختراق الدول على أيديولوجيتها الماوية البائدة التي كانت تلقى هوسا لدى الشباب المتحمس القابل للأدلجة وبعض الأنظمة الراديكالية، لكن زعيمها الحالي الطامح لوضع بصمته الخاصة على صين القرن الـ21 أدرك بذكاء الإنسان الصيني المشهود أن الزمن لم يعد زمن الأيديولوجيات والشعارات وحروب التحرير الشعبية وإنما زمن الاقتصاد والمشاريع الكبرى من تلك التي تربط القارات والأمم والشعوب بمصالح مشتركة. ومن هنا طرحت بكين مبادرتها المثيرة للجدل المتمثلة في طريق الحرير الجديد وراحت تروج له إعلاميا ودبلوماسيا عبر المحيطات والقارات مستخدمة أسلوب الإغراء بالقروض الهائلة والصفقات الاستثمارية الضخمة ولا سيما في قطاع البنى التحتية. كان الأمل الذي راود القيادة الصينية هو تشكيل جبهة موحدة مع الأوروبيين ضد سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الحمائية وما راح الأخير يفرضه من ضغوط. وهي سياسات وضغوط بقدر ما أزعجت الصينيين وأخرجتهم عن طورهم، فإنها أزعجت أيضا الحليف الأوروبي التقليدي لواشنطن. غير أن دول الاتحاد الأوروبي الكبيرة سرعان ما تنبهت إلى الأهداف الصينية المستترة القائمة على مبدأ "فرق تسد" من أجل قيادة القارة العجوز والهيمنة عليها بدلا من الولايات المتحدة التي كانت قد حذرت سابقا حليفاتها الأوروبيات من مغبة المضي بعيدا في التعاون مع بكين حول مبادرتها الطموحة. وهكذا رأينا الضغوط تتوالى من برلين وباريس وواشنطن وبروكسل لكبح جماح الإيطاليين الذين شرعوا أبواب روما أمام الزعيم الصيني. لقد عد الصينيون دخولهم أوروبا من الباب الإيطالي انتصارا مدويا لهم، بدليل ما قاله شي جين بينج أمام مستضيفه من أن زيارته لإيطاليا واستعداد الأخيرة للانخراط في مبادرة طريق الحرير يحمل مغزى مهما وكبيرا. ولعله بهذا كان يشير إلى جملة من الأمور، منها أن إيطاليا هي أولى أعضاء مجموعة السبع "القوى الاقتصادية الغربية الرئيسة" التي تدعم مبادرة بكين، ومنها أنه أول زعيم صيني يقتحم بنجاح أسوار روما بعد زيارة سلفيه هو جينتاو عام 2012 وجيانج زيمين عام 1999، ومنها ما تمثله إيطاليا من قوة اقتصادية "ثالث اقتصاد أوروبي بعد ألمانيا وفرنسا" ذات موانئ استراتيجية مطلة على البحر الأبيض المتوسط، ناهيك عن أن إقناع إيطاليا بالذات للانضمام إلى مبادرة طريق الحرير الجديد يحمل دلالة رمزية كون طريق الحرير القديم بدأ مع المستكشف الإيطالي ماركوبولو من روما قبل ألف عام. ومع أن جيوزيبي كونتي رئيس الحكومة الإيطالية حاول تفادي غضب شركاء بلاده الأوروبيين والحليف الأمريكي بالقول إن التنسيق مع الصين وتوطيد العلاقات معها يجري في إطار الاستراتيجية الموحدة للاتحاد الأوروبي وفي ظل احترام الصداقة القائمة مع واشنطن، فإن كلامه لم يقنع أحدا، لعدة أسباب. فالاتحاد الأوروبي نظر إلى الصفقة الإيطالية الصينية بعين الشك والريبة لأن الصين دولة منافسة وليست حليفة، تماما مثلما تنظر إليها واشنطن التي شنت عليها حربا اقتصادية تمثلت في فرض الرئيس دونالد ترمب رسوما إضافية على الألمنيوم والصلب الصيني بنسبة 25 في المائة وإقرار ضرائب على الصادرات الصينية بقيمة 200 مليار دولار. وهذا حدا بواشنطن وبروكسل إلى ممارسة مزيد من الضغوط على الشريك الإيطالي كي يتراجع عن بعض ما أبرمه مع الجانب الصيني خصوصا لجهة التعاون في مجال الاتصالات الذي يثير حساسية كبيرة عند الأمريكيين خشية أن يكون ذلك بابا تنفذ منه بكين للتجسس على سياسات واستراتيجيات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو باستخدام تقنيات صينية خاصة. ذلك أن الصفقة الإيطالية الصينية تضمنت علاوة على مشاريع شراكة تعطي بموجبها إيطاليا أسبقية للصين في استغلال وإدارة بعض موانئها المهمة مثل البندقية وجنوة وبما يعطي بكين وجودا في منطقة جنوب أوروبا، فإنها تضمنت أيضا مساهمة "شركة هواواي" (التي أوقفت واشنطن رئيستها بتهمة سرقة التكنولوجيا الأمريكية) في تمكين الشركات الإيطالية من الحصول على تقنيات صينية جديدة مرتبطة بالكهرباء والطاقة البديلة وشبكات الاتصالات في أوروبا. لقد توقع الصينيون أن الانشقاقات الحاصلة اليوم في الجسد الأوروبي ما بين تمرد ذوي السترات الصفراء في فرنسا، ومشكلة المهاجرين في ألمانيا، وانقسام المجتمع وأحزابه وساسته في بريطانيا حول "بريكست"، وديون إيطاليا المتراكمة وعجوزاتها المالية، تشكل في مجملها فرصة ذهبية لهم لاختراق دول القارة العجوز الكبرى مثلما عملوا بنجاح في اختراقهم لدول القارة الصغرى عام 2008 لكن تقديراتهم التي بنيت على أن الاتحاد الأوروبي يمر بأوقات عصيبة وبالتالي لا يملك كثيرا من الأدوات السياسية لفرض تدابير صارمة ضد الدول الأوروبية المتعاونة مع الصين كانت خاطئة. وبطبيعة الحال، لا يعني هذا عدم وجود تعاون بين الصين وكل من ألمانيا وفرنسا وغيرهما "ألمانيا مثلا هي الشريك التجاري الأول للصين"، لكنه تعاون حذر ويجري تحت المظلة الأوروبية الموحدة، أي: بعكس تصرفات روما التي تبدو شاذة، ليس فيما يتعلق بالتعاون مع بكين فقط وإنما أيضا في موقفها من أحداث فنزويلا، مثلا: "عدم مجاراة موقف الاتحاد الأوروبي في الاعتراف بخوان جوايدو زعيم المعارضة". لقد قيل إن تمرد روما مجرد أداة ضغط على الاتحاد الأوروبي لمراعاة مكانة إيطاليا كعضو مؤسس وقطب صناعي، والتعامل معها بصورة أكثر مرونة بدلا من مواجهتها بعقوبات بسبب عجز ميزانيتها وتعثر مصارفها، أو التعامل معها ببرود بسبب انتصار تحالفها الشعبوي ووصوله إلى السلطة سنة 2018.
مشاركة :