يفرض الشكل الشعري وجوده من خلال نماذجه العليا التي ينتجها مبدعون لا يستهدفون السبق والمغايرة قدر ما يستهدفون تحقيق مستويات من الشعرية تجعل المتلقي الحقيقي يتساءل عن مكامن الشعر في النص الشعري لم تخدعني قصيدة النثر التي أنتجها السابقون إلى ولوج هذا الشكل لأنها ببساطة لم تحو الصورة المستقرة في ذهني عن ماهية الشعر ولم تحفز ذهني لتغيير الصورة المستقرة به. اسماء كبيرة قدمت نصوصا تبعتها قراءات نقدية وتنظيرات بشرت بعالم شعري مفتوح متجاوز للسائد والمألوف في القصيدة, كرست النصوص اتكاء على أسماء كاتبيها لا على شعرية حقيقية تقدمها هذه النصوص. من هنا كان تحفظي على قصيدة النثر حينا من الدهر, حتى وقعت بين يدي نصوص تنتمي لهذا الشكل من الناحية المورفلوجية لكنها استطاعت أن تتذخر بطاقات شعرية متفجرة أحدثت تحريكا دوَّاميا للصورة المستقرة في ذهني عن الشعر وجعلتني أتساءل بيني وبين نفسي: أين يكمن الشعر في الشعر؟ أو ما هو الشعر في الشعر؟ لست هنا في مقام التنظير لجوهر الشعر ولا الإجابة عن هذه التساؤلات الحرجة، ولكن أردت أن أوضح – وأنا الشاعر العمودي المترع بالموسيقى – أن الإيقاع ليس شرطا لتحقيق الشعرية وأن خلو النص منه لا ينفي كونه شعرا. فالنص يكون شعرا بقدر ما فيه من شعر. هناك أسماء قدمت تجارب محرضة ودافعة لتقبل قصيدة النثر بينهم تقف حليمة مظفر منتصبة كنخلة تعطي تمرا لا يمنح حلاوته إلا لمن يمتلك أدوات القراءة المبدعة. أما القارئ الكسول الذي اعتاد رضاعة النص الشعري فلا يعود إلا بمرارة ثمرة لم تنضج بعد حيث لا يدرك أنه يجب أن يكون شريكا في إنضاج الثمرة. تبتكر حليمة لغتها الخاصة وتنحت معجمها نحتا حجازيا لتضع بصمتها الرقيقة فوق جبال تهامة الصلبة القاسية حتى تصبح البصمة صوتا يصرخ بهموم الأنثى في مجتمع قام على مركزة الذكر وتنقيط الأنثى على محيط الدائرة التي لا تتميز نقطة فيها عن أخرى إلا بقدر ما تتميز قطرة ماء في بحر عن أختها. تختار حليمة (الموال) – وهو عنوان إحدى قصائدها التي لم تجترئ بعد على تسميتها بالقصيدة – لتحمله طاقة تمرد شرسة تحاول فيها انتقاد مجتمعها الذي يكرس الذكورة اتكاء على قيم ومبادئ دينية فترى الأقنعة تسقط من فوق الوجوه، هذه الأعياد التي أدركها الخريف فعراها، حيث الحب فسق والمرأة نعجة يجرها كبش نحو القطيع، والاعتراض على هذه القيم بمثابة الانتحار في مجتمع لا يسمح بأي خروج على قيمه التي سادت قرونا عديدة. فتفقد الرغبة في الحياة فالخبز حاف والماء لا يروي والهواء ظل مسروق. يتملكها الإحساس بهباء العالم وترى الكل باطل الأباطيل وقبض الريح فكل ما في الأرض أجساد نبتت من تراب. تعبر عن تشظيها أمام قناعتها الدينية العقلية حد الطرب واشتعال جسدها السجين داخل منظومة القيم التي لا تسمح لجسدها إلا بالاشتعال في صمت. هذا التشظي الذي يجعلها في الليل امرأة حرة طليقة محلقة لكن داخل حدود وحدتها وخلف أسوار عذاباتها, وفي النهار يقدمها قربانا يجب عليه أن يكون مستسلما برضا للمعلن من القيم المجتمعية الحارقة كشمس الظهيرة الحجازية حتى موالها الذي تفر إليه أنينا لا يسلم من قبضة الوالي الذي يحاكمه ويدينه ويقيم عليه الحد ويقتص منه انتصارا لقانون المجتمع لكن يبقى التمرد مسيطرا على حليمة مظفر فتتعرى في تحد واضح وتبتكر من لغتها مدينتها الخاصة التي تسكنها – والسكن هنا متبادل بين ذات الشاعرة والمدينة فكل منهما تسكن الأخرى – هذه اللغة (المدينة) تنزع عنها ثوبها وتظل عارية، لكن الشاعرة لا تملك تأمين مدينتها (لغتها) من اجتياح الفئران (الأفكار الراسخة في ذهنها) هذه المدينة التي يسكنها المجتمع على اختلاف طبقاته ومستوياته الثقافية ليس بها قضبان حقيقة ولكنها تتمثل في سلبية الجائعين والوجهاء الذين حضروا يشهدون إقامة الحد على الموال (الفضاء الذي اختارته حليمة مظفر لإطلاق صرخة الأنثى) فيظل فضاء الشاعرة قبرا ليس يسمع به أنين أنثى تتمدد حية تحت ركامه. لقد نجحت حليمة مظفر في إنشاء نص شعري يعبر بدقة وشفافية ومواربة عن حالة ضياع أنثى متمردة تجد في ذاتها وتملك بالقوة كل عناصر التمركز بينما يجبرها مجتمعها على الانزواء والاندحار نحو الهامش. أنت أمام نص شعري حين تقرأه تشعر أنك تجلس إلى سيدة حجازية تقص عليك كابوسا غائم الملامح مختلط الأصوات خلفيته سوداء تقبع في أقصى أركانه كوة نور، تجري الشاعرة بأقصى سرعة خيالها نحو هذه الكوة فيمسك المجتمع ذو القبضة الحريرية بذيل عباءتها السوداء ويردها إلى منتصف الكابوس حيث الكل يتمنى الإفاقة منه، لكن لا أحد يكلف نفسه عناء فتح عينيه. هذا هو الشعر وإن خلا من الإيقاع وهذه لغته وإن فقدت الرصانة وهذا تخييله وإن استغنى عن البيان والبديع. وهذه هي حليمة مظفر الشاعرة الناقدة لمجتمعها المتشظية بين حبها له ورغبتها في تطويره وإن تخلت عن منصة التظاهر مادامت تملك القدرة على الإيحاء من خلال موال.
مشاركة :