استبعدت أوساط سياسية تونسية أن تكون زيارة رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي إلى باريس بدعوة من جهة رسمية فرنسية مثلما يروج لذلك إعلام الحركة ونشطاؤها على مواقع التواصل الاجتماعي. وتعتقد هذه الأوساط أن الغنوشي سافر إلى باريس في محاولة لإقناع فرنسا، التي تستعد لحملة واسعة ضد الإسلام السياسي، بأن حركة النهضة محلية ولم تعد لها صلات بحركة الإخوان المسلمين التي قد تبادر فرنسا إلى حظرها على خطى الولايات المتحدة. وبدأ الغنوشي، الثلاثاء، زيارة إلى باريس، وصفتها مصادر من حركته المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين، بـ”المهمة”، وقالت إنها ستتواصل على مدى أسبوع يرافقه فيها عدد من كبار مسؤولي الحركة، عرف منهم رفيق عبدالسلام، صهر الغنوشي، ومسؤول العلاقات الخارجية في حركة النهضة. وسعت نفس المصادر للترويج إلى أن هذه الزيارة تأتي “تلبية لدعوة من السلطات الفرنسية”، لافتة في هذا السياق إلى أن الغنوشي سيجتمع خلالها بعدد من كبار المسؤولين الفرنسيين، كما سيلقي خلالها محاضرات في عدد من مراكز البحوث والدراسات، إلى جانب الاجتماع بعدد من أفراد الجالية التونسية في فرنسا. لكن مصادر سياسية تونسية أكدت لـ”العرب” أنه لم يصدر أي موقف رسمي يؤكد أن السلطات الفرنسية الرسمية وجهت دعوة للغنوشي لزيارة باريس، فيما أكدت مصادر أخرى أن هذه الزيارة تأتي بترتيب من شركة علاقات عامة تعاقدت معها حركة النهضة في وقت سابق بمبلغ مالي كبير. وبغض النظر عن هذه المسألة، بدأت هذه الزيارة متعثرة، حيث تعرض الغنوشي والوفد المرافق له، لانتقادات وجهتها لهما امرأة تونسية داخل الطائرة التي أقلتهما إلى باريس، وصلت إلى حد تحميلهما مسؤولية الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد. وتداول ناشطون على فيسبوك مقطع فيديو يظهر تلك المرأة وهي تخاطب الغنوشي ومن معه بكلمات حادة، وصلت إلى حد “لعن الزمن الذي أوصل حركة النهضة إلى الحكم”، وتسببها في ما وصفته بـ”الخراب” الذي حل بتونس، وسط ضحكات كان يطلقها رفيق عبدالسلام، صهر الغنوشي بين الحين والآخر.وتكشف هذه الحادثة عن حجم المتاعب التي باتت تواجه الغنوشي وحركته سواء في الشارع التونسي، أو في المشهد السياسي، أو في المحيط الإقليمي. كما أظهرت الحادثة رفضا مجتمعيا واضحا للخطاب السياسي والاجتماعي لحركة النهضة، وكافة تنظيمات الإسلام السياسي. وتعيش النهضة على وقع مخاوف جدية من خسارة النفوذ الذي رسمته لنفسها منذ 2011، وخاصة من بوابة التوافق الذي فتح لها المجال لاختراق المؤسسات الرسمية. ولئن نجحت الحركة في إضعاف الأحزاب المنافسة لها، وخاصة نداء تونس، فإنه مع اقتراب موعد الانتخابات بدأت القوى والأحزاب الوطنية في ترتيب البيت وبناء تحالفات جديدة ستساعد في تقليص هيمنة النهضة على المشهد. وسيكون الدور المؤثر في هذه الترتيبات الجديدة لسلمى اللومي، الوزيرة مديرة الديوان الرئاسي التي استقالت الثلاثاء للتفرغ لترتيب البيت الداخلي لنداء تونس و”المساهمة في تجميع العائلة الوسطية التقدمية وتوحيدها، ووضع حد لتشتتها وانقسامها قبل فوات الأوان”، كما جاء في حسابها على فيسبوك الأربعاء. ويرى مراقبون أن البداية المتعثرة لزيارة الغنوشي لباريس، لا تمنع من الإشارة إلى أن توقيتها يكتسي مع ذلك أهمية بالغة لعدة اعتبارات تبدأ بالمتغيرات في المشهد الإقليمي والدولي في علاقة بتنظيمات الإسلام السياسي، ولا تنتهي عند خارطة الأولويات التي باتت تحكم تحركات حركة النهضة للنأي عن الرياح التي باتت تعصف بتلك التنظيمات. وتتزامن الزيارة مع ارتفاع منسوب التخوفات الفرنسية من تنظيمات الإسلام السياسي، وسط تحركات برلمانية للضغط على الرئيس إيمانويل ماكرون، ودفعه إلى إدراج تنظيم الإخوان المسلمين في قائمة الإرهاب، وحل المنظمات والجمعيات المرتبطة به في فرنسا. وجاءت هذه التحركات بعد حملة أطلقتها الناطقة باسم حزب الجمهوريين، ليديا جيروس، لحشد البرلمانيين، لاتخاذ خطوات لمكافحة المتطرفين في فرنسا، وصولا إلى تصنيف تنظيم الإخوان كمنظمة إرهابية، حيث حصلت إلى غاية الآن على تأييد 50 برلمانيا فرنسيا. ويُنظر إلى هذا التحرك الذي يُرجح أن ترتفع وتيرته خلال الأيام والأسابيع القادمة، على أنه استكمال للتحذير الذي أطلقه ماكرون، في الخامس والعشرين من أبريل الماضي، من أن الإسلام السياسي يسعى لتقسيم الفرنسيين. وكان ماكرون واضحا في هذا الصدد، حيث قال “لا ينبغي علينا أن نحجب أعيننا عن الحقائق، نحن نتحدث عن أناس أرادوا باسم الدين مواصلة مشروع سياسي، وهو الإسلام السياسي الذي يريد أن يحدث انقساما داخل جمهوريتنا”. ولم يتردد في المقابل، في الإعلان صراحة أنه طلب من الحكومة “ألا تبدي أي تهاون مع الذين لديهم تحت غطاء الدين، مشروع سياسي، هو مشروع الإسلام السياسي”. وقد يكون لدى الرئيس الفرنسي ما يكفي من الدوافع والأسباب للشعور بالقلق، لاسيما بعد تزايد التقارير التي تُحذر من توسع دائرة نفوذ جماعات الإسلام السياسي داخل النسيج الاجتماعي الفرنسي عبر تمويلات تأتي من بعض الدول الحاضنة لجماعة الإخوان المسلمين على غرار قطر وتركيا. لكن القلق الأكبر الذي بات ينتاب راشد الغنوشي يتأتى من التحولات في ليبيا والسودان، حيث تتجه التطورات إلى محاصرة نفوذ جماعات الإسلام السياسي هناك، ورئيس النهضة يمتلك علاقات متينة مع إخوان ليبيا، ولعب دور الوسيط في ترتيبات سابقة على علاقة بالملف الليبي، وكذلك مع إخوان السودان، كما يمتلك قنوات تواصل مع داعميهم في تركيا وقطر. ويدرك الغنوشي أن هذه التطورات التي تشير إلى أن قواعد اللعبة الإقليمية والدولية دخلت في مسار جديد، من شأنها تقليص مساحة مناوراته، ومع ذلك ما زال يراهن على إمكانية الخروج من هذا المأزق.
مشاركة :