تتجه الحكومة اللبنانية لإقرار الموازنة الأكثر تقشفاً في تاريخ البلاد لضمان الحصول على قروض وهبات بالمليارات تعهد المجتمع الدولي بتقديمها لها شرط إقدامها على جملة إصلاحات بينها خفض العجز، في ضوء تردي الوضع الاقتصادي وتراكم الدين. يأتي ذلك بعد دعوات أطلقها الرئيس اللبناني ميشال عون حث فيها اللبنانيين على إنهاء الاحتجاجات وتقديم التضحيات لإنقاذ البلاد من الأزمة المالية، في الوقت الذي يناقشه فيه الوزراء مسودة الميزانية المتوقع أن تشمل تخفيضات في الإنفاق. ودفعت المخاوف من اشتمال الميزانية على تخفيضات في الأجور ومعاشات التقاعد موظفي القطاع العام إلى تنظيم احتجاجات، بما يشير إلى حقل الألغام الذي تواجهه الأحزاب الرئيسية في لبنان. وتسعى الحكومة الائتلافية إلى وضع اللمسات الأخيرة على ميزانية يقول رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إنها قد تكون الأشد تقشفا في تاريخ لبنان، سعيا للسيطرة على الإنفاق وكبح الدين العام. ولبنان مثقل بواحد من أكبر أعباء الدين العام في العالم، وتعتبر الإصلاحات التي تعطلت طويلا أكثر إلحاحا من أي وقت مضى بعد سنوات من تدني النمو الاقتصادي. وقال عون أمام ضيوف إفطار رمضاني أقيم بالقصر الرئاسي "اليوم يمر (لبنان) بأزمة اقتصادية ومالية واجتماعية صعبة، الكثير من أسبابها موروث وثقيل، ولكنها مرحلية". وأضاف "إن لم نُضح اليوم جميعا ونتخلص من بعض امتيازاتنا التي لا نملك ترف الحفاظ عليها، نفقدها كلها". وتعهد عون بأن التضحية ستكون "متوازنة ومتناسبة بين القوى والضعيف وبين الغني والفقير"، داعيا الحكومة إلى استعادة ثقة الشعب. وتابع "المطلوب اليوم منا... العودة إلى ضميرنا الوطني والعمل بوحيه قبل المصلحة الشخصية الآنية... فننقذ أنفسنا بأنفسنا، ونقبل بالتضحيات المطلوبة إلى حين، ونتوقف عن الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات وشل قطاعات العمل العامة والخاصة".ويثير مشروع الموازنة قلقا بين المواطنين الذين يعانون من ضيق معيشي متزايد منذ سنوات، ما دفع موظفي القطاع العام الى تنفيذ اعتصامات وإضرابات متتالية منذ أكثر من أسبوعين رفضاً لأي اقتراحات تلحظ اقتطاعاً من رواتبهم أو من امتيازات بعضهم، في إطار سعي الحكومة لتخفيض الإنفاق العام. وبعد فشل السلطات المتعاقبة بإجراء إصلاحات بنيوية في البلد الصغير الذي تثقل الديون والفساد كاهله، تعهدت الحكومة العام الماضي أمام مؤتمر دولي استضافته باريس لمساعدة لبنان، بإجراء هذه الإصلاحات وتخفيض النفقات العامة مقابل حصولها على أكثر من 11 مليار دولار على شكل قروض وهبات. ويوضح رئيس قسم الأبحاث في مجموعة "بنك بيبلوس" نسيب غبريل أن "الضغط" على الحكومة يأتي أولاً من "المواطن الذي يلمس تراجعاً في فرص العمل والحركة الاقتصادية، والقطاع الخاص الذي يلحظ جموداً اقتصادياً وارتفاع الأعباء التشغيلية، والقطاع المصرفي الذي يتحمل أكثر وأكثر عبء تمويل القطاع العام". ويأتي الضغط ثانياً من "التوقعات الدولية بعد مؤتمر سيدر وتعهد السلطات اللبنانية تطبيق إصلاحات لتخفيض العجز في الموازنة" بنسبة واحد في المئة سنوياً من الناتج المحلي خلال خمس سنوات. ويشهد الوضع الاقتصادي تدهوراً منذ سنوات. وفاقم اندلاع النزاع في سوريا المجاورة منذ العام 2011 الوضع سوءاً مع تراجع حركة السياح والاستثمارات الأجنبية. وسجلت نسبة النمو العام الماضي 0,2 في المئة، وفق صندوق النقد الدولي. وتراكم الدين العام تدريجياً بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990)، ويُقدّر اليوم بأكثر من 85 مليار دولار، أي ما نسبته 152 في المئة من الناتج المحلي، وفق وزارة المالية. ولم يقترن ذلك بأي اصلاحات جذرية أو بتأهيل البنى التحتية المترهلة والمرافق التي كبّدت الدولة أموالاً باهظة أبرزها الكهرباء. وحوالى ثمانين في المئة من ديون الدولة هي من المصرف المركزي والمصارف التي حققت أرباحاً هائلة جراء الفوائد التي جنتها من خدمة الدين. وخفّضت وكالة "موديز" مطلع العام تصنيف لبنان، مشيرة إلى "مخاوف من ارتفاع كبير في الدين". "انفجار اجتماعي"ومنذ العام 2005، زاد الإنفاق العام بنسبة 147 في المئة، وفق غبريل، دون أن يقترن ذلك بزيادة متوازنة في الإيرادات. وفشلت الحكومة العام الماضي في خفض العجز إلى 9 في المئة من الناتج المحلي، وارتفع عوض ذلك إلى 11,5 بالمئة، وفق البنك الدولي. ويأتي وضع مشروع الموازنة متأخراً جراء الانقسام السياسي وفشل القوى السياسية في تشكيل حكومة على مدى ثمانية أشهر. ويُعدّ تخفيض العجز أمراً لا مفرّ منه، سواء عبر إجراءات تقشفية تشمل تقليص التوظيف في القطاع العام حيث الكثير من الفساد والمحسوبيات، أو عبر زيادة الإيرادات. وأعلنت الحكومة أن الموازنة ستلحظ رفع الفوائد على الودائع المصرفية من سبعة إلى عشرة في المئة. ويعتصم منذ أكثر من أسبوعين عسكريون متقاعدون وموظفون في دوائر عدة بينها الضمان الاجتماعي وكهرباء لبنان ومرفأ بيروت وقضاة في المحاكم رفضاً لأي مسّ برواتبهم، بعد تقارير تحدثت عن احتمال أن تشمل الموازنة اقتطاعات في الرواتب. ونفّذ موظفو مصرف لبنان الأسبوع الماضي إضراباً غير مسبوق لأربعة أيام، ما أثّر سلباً على عمل المصارف وأدى إلى إقفال بورصة بيروت. ويرفض هؤلاء حسم أربعة رواتب إضافية يتقاضونها سنوياً وامتيازات خاصة بهم. فساد وهدر ويرى غبريل أن ما تقترحه الحكومة لخفض عجز الموازنة يتجاهل مصادر إيرادات كثيرة يمكن أن توفّر لخزينتها مليار دولار على الأقل خلال العام الحالي. ويشير الى "عدم جدية في إيجاد مصادر إيرادات موجودة، كمكافحة التهرب الضريبي وتفعيل الجباية وضبط الحدود ومنع التهريب"، مضيفاً "كلها إجراءات تحتاج فقط إرادة سياسية". ويأخذ اللبنانيون على القادة السياسيين عدم التطرق الى هذه الملفات، متهمين إياهم بأنهم يفعلون ذلك لأنهم مستفيدون منها أو لأنهم يحصلون على عمولات من المخالفات والتهرب الضريبي. ويؤكدون أن التعديات على الأملاك البحرية العامة الممتدة على طول الشاطئ اللبناني والتي تشمل عشرات الفنادق والمجمعات البحرية، تعود في غالبيتها الى مشاريع يملكها سياسيون ونافذون. وأقرت الحكومة في أبريل خطة لإصلاح قطاع الكهرباء الذي كبّد خزينة الدولة من العام 2008 حتى 2017، نحو نصف العجز المالي في لبنان، وفق البنك الدولي. وبعد حوالى ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الأهلية، يستمر التقنين في التيار الكهربائي ولا تتمكن الدولة من جباية الفواتير من بعض المناطق. وقد لا يتم إقرار الموازنة في البرلمان بسهولة. ويقول رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر "نحن ضد أي إجراء يمسّ بالطبقة العاملة وشرائح المجتمع الفقيرة والمتوسطة". ويضيف "إذا لم تأخذ الحكومة بالملاحظات التي قدمناها، (...) سيؤدي مشروع الموازنة إلى انفجار اجتماعي". ويعيش أكثر من ربع اللبنانيين، وفق البنك الدولي، في دائرة الفقر، بينما لا تتوفر فرص عمل لعشرات الآف الشبان. خلال مشاركته في تظاهرة احتجاجية أمام المصرف المركزي في بيروت، قال الجنرال المتقاعد علي عامر لفرانس برس قبل أيام "إنه التحذير الأخير". وأكد أنه في حال المسّ بالرواتب، "سنتظاهر في الشوارع كل يوم ونحرق الإطارات ونقطع الطرق".
مشاركة :