يتوجه الناخبون الفرنسيون غدا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الدورة الأولى من الانتخابات المحلية وسط توقعات قوية بأن يتلقى رئيس الجمهورية والحكومة والحزب الاشتراكي صفعة قوية وأن يفرض حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف نفسه كقوة سياسية أولى أو ثانية في المشهد السياسي الفرنسي. وتأتي هذه الانتخابات قبل عامين على انتهاء ولاية الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند الذي عادت شعبيته إلى التراجع بعد «الفورة» التي عرفتها عقب الهجومين على صحيفة «شارلي إيبدو» والمتجر اليهودي في يناير (كانون الثاني) الماضي وإجماع الفرنسيين على حسن قيادته المرحلة الحرجة ونجاحه في تخطي التجاذبات الحزبية لمواجهة الإرهاب. لكن هذه «الانقشاعة» في سماء استطلاعات الرأي المكفهرة وتدهور شعبيته لم تدم طويلا وعادت الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها البطالة لتتغلب على ما عداها. بيد أن العامل المهيمن على هذه الانتخابات سيكون بلا شك التقدم الكبير الذي ستحققه «الجبهة الوطنية» بقيادة مارين لوبن، إذ تفيد آخر استطلاعات الرأي أن هذا الحزب اليميني المتطرف سيحصل على 29 في المائة من الأصوات وهي نسبة لم يعرفها إطلاقا من قبل. وبذلك يكون هذا الحزب الذي جعل من التنديد بالهجرات المشروعة وغير المشروعة والذي يعتبر الإسلام غير متوافق مع قيم الجمهورية الفرنسية ولا مع هويتها ويدعو إلى سياسة أكثر تشددا في موضوع المساعدات الاجتماعية وإعطاء الأفضلية في العمالة للفرنسيين وإلى الخروج من منطقة اليورو والعودة إلى العملة الفرنسية السابقة (الفرنك الفرنسي) قد فرض نفسه لاعبا أساسيا على المسرح السياسي الفرنسي. والخلاصة أن المشهد الذي عاشت فرنسا في ظله منذ عقود طويلة أي وجود قطبين سياسيين يتنازعان السلطة، هما القطب اليساري (الاشتراكيون والشيوعيون وحلفاؤهما) واليميني (اليمين التقليدي ويمين الوسط وحلفاؤهما) وعلى جانبيهما يسار متشدد ويمين متطرف هامشيان، انتهى زمنه. أما المشهد الحالي فهو ثلاثي الأقطاب قطبه الثالث هو اليمين المتطرف. ووفق آخر التوقعات، ينتظر أن يخسر الاشتراكيون نصف المقاطعات التي كانوا يهيمنون عليها لصالح اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف ما ستكون له تبعات على الانتخابات اللاحقة. والأمر المزعج بالنسبة لليسار الاشتراكي أنه يأتي في المرتبة الثالثة مع نسبة لا تتجاوز العشرين في المائة من الأصوات بينما يحتل حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» وحليفه حزب اتحاد المستقلين (يمين الوسط) المرتبة الأولى (30 في المائة). وإذا جمعت أصوات الاشتراكيين مع باقي اليسار غير المتشدد فإنها لا تزيد على 26 في المائة فيما الجبهة اليسارية يمكن أن تحصل على 7 في المائة والخضر على 2 في المائة. وبهذا، لو جمعت كل أصوات اليسار بكل مكوناته المعتدلة والمتشددة فإنها لن تزيد على 35 في المائة، ما يعني انزلاقا واضحا للفرنسيين نحو اليمين وبالدرجة الأولى نحو اليمين المتطرف. والمنتظر أن تبلغ نسبة التغيب عن الانتخابات نحو 55 في المائة ما يعكس قلة اكتراث المواطنين الفرنسيين بهذه الانتخابات التي لا يفهمون تماما معناها ولا صلاحيات المستشارين الذين سيفوزون بها. ويبدو أن الحزب الاشتراكي سيكون الضحية الأولى لهذه الانتخابات بسبب انقساماته الداخلية بين جناح تقليدي وآخر إصلاحي أضر بصورته لكن علته الكبرى أن عهد الرئيس هولاند لم يحقق وعوده الانتخابية خصوصا على مستوى النمو الاقتصادي الضروري لوقف ارتفاع معدلات البطالة التي تزيد على 10 في المائة. كذلك، فإن مشكلة الحزب الاشتراكي أنه انقطع عن حلفائه التقليديين وهم الراديكاليون الاشتراكيون والخضر ما يعني أن قاعدته السياسية والاجتماعية ضاقت. بيد أن هولاند ورئيس حكومته مانويال فالس يراهنان على النتائج التي ستفرزها الإصلاحات الاقتصادية الكثيرة التي أدخلتها الحكومات الاشتراكية المتعاقبة وعلى السياسة الجديدة للبنك المركزي الأوروبي وخصوصا تراجع أسعار النفط وانخفاض قيمة اليورو إزاء العملات المنافسة وتراجع الفوائد على القروض. وإذا كانت هذه الانتخابات مهمة بذاتها، إلا أن تبعاتها اللاحقة أكثر أهمية خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية (وبعدها التشريعية) التي ستجرى في ربيع عام 2017. فلو صدقت استطلاعات الرأي وبقي الرأي العام على حاله، فمن المؤكد أن المرشح الاشتراكي القادم للانتخابات الرئاسية لن يصل إلى الدورة الثانية بل إن المنافسة ستنحصر بمرشح اليمين الكلاسيكي ومارين لوبن التي تعد نفسها لهذا الاستحقاق الكبير. ومصدر القلق يكمن في أن «الجبهة الوطنية» لم تعد محصورة في أوساط محددة بل تجد أصداء لها في الطبقة العمالية والمزارعين وصغار الموظفين والطبقات الدنيا التي كانت تشكل العصب الأساسي للحزبين الشيوعي والاشتراكي واليسار التروتسكي والمتطرف. بيد أنها اليوم هجرت هذه التشكيلات وجاءت لتضخم صفوف الجبهة الوطنية المتطرفة. لكن هل يعني هذا أن الأمور مكتوبة سلفا؟. يرى مراقبون أنه إذا لم يتحسن الوضع الاقتصادي وإذا لم ينجح هولاند في وقف تقدم البطالة وإنعاش النمو الاقتصادي وخفض عجوزات الدولة وإعطاء بعض الأمل للطبقات الشعبية، فإن معركة عام 2017 ستكون محسومة سلفا. وحتى الآن، ما زال هولاند المعروف بتفاؤله المفرط يراهن على عودة العجلة الاقتصادية إلى الدوران وعلى أن الفرنسيين سيعرفون في وقت ما أهمية الإصلاحات التي أدخلها والنتائج التي ستفضي إليها.
مشاركة :