دارة العرب: قراءة بلاغية لحديث القرآن عن القرآن

  • 5/17/2019
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

أشار الأستاذ الدكتور عبدالعزيز العمّار إلى أن الغرض من نزول القرآن هو التأمل والتدبر، وعندما نؤمر بالتأمل والتدبر يجب أن نعلم أن الله أعطانا من القدرات ما يمكننا من التدبر والتأمل، وعلينا ألا نعطل النعمة التي منحنا الله إياها ونحرم أنفسنا من نعم القرآن وأسراره التي لا تظهر إلا للمتأملين، مستشهدًا بعدد من الآيات التي ورد فيها الإيجاز والتشبيهات وحديث القرآن عن القرآن في العهد المكي لمحاججة المشركين، مؤكدًا أن دقة بلاغة القرآن ترد الترادف جملة وتفصيلاً، جاء ذلك في محاضرة ألقاها في دارة العرب بعنوان «حديث القرآن عن القرآن: قراءة بلاغية» أدارها د. عبدالعزيز الخراشي مساء السبت ٦ رمضان ١٤٤٠هـ الواقع في ١١ أيار (مايو) ٢٠١٩م. وقال: إن الأمر الثاني والمهم أن القرآن معجزٌ وهذا محل اتفاق لدى الجميع وتتعدد وجوه الإعجاز في بلاغته وجاء الإعجاز بالبلاغة لما اشتهر به العرب عند نزوله، حيث كان كفار قريش آية في الفصاحة والبلاغة. وشكك المحاضر في المرويات عن مسيلمة وقال: ما تجرأ العرب أن يعارضوا معجزة القرآن. والأمر الثالث لا يكفي أن نعلم أن القرآن معجز بلاغيًا ما لم نستطع أن نضع أيدينا على الإعجاز البلاغي فيه. وقال المحاضر: لا سقف للتأمل وفيما يتعلق بحديث القرآن عن القرآن ننظر فيما قاله في كتابه عن كتابه من الحرف مرورًا باللفظة وانتهاءً بالجمل والتراكيب، فالقرآن الكريم عزيز إذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا، وإن أعطيته كلك لم يعطك إلا شيئًا بسيطًا على قدر التأمل، وحينما ننظر في حديث القرآن عن القرآن بدءًا بالحرف، حتى الحروف المقطعة يكاد يكون أصدق الأقوال وأرجح الأقوال أن فيها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم. واستشهد بقوله (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالٍ مبين)، مشيرًا إلى أن تقابل المعاني في القرآن صورة من صور إعجازه وهذا التقابل تجلى كثيرًا في سورة محمد، ففي جانب المؤمنين ذُكر الصدر، وأما في شق الكافرين ذكر القلب، والصدر أكبر من القلب فأثر القرآن دخل القلب ففاض حتى شمل الصدر، أما الضلال فيبقى في القلب، وقوله (على نور) فيما يخص المؤمنين حتى يصور رفعة المؤمن ومكانة هذا الإنسان الذي يتبع القرآن الكريم، أما الكافر فقال عنه (في ضلال مبين) وهي تفيد الانغماس، فصاحب الحق مستعلٍ؛ لأنه اتبع القرآن. وعند الذهاب إلى الألفاظ تجد عجبًا في بلاغة القرآن: (كتابٌ أحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير) لذلك عند تأمل الألفاظ تجد كل لفظة اختيرت بعناية في هذا الموضع ولو رفعت هذه اللفظة وأدرت لسان العرب على أن تجد لفظة بديلة لن تجد، وهنا تكمن الدقة في اختيار الألفاظ حتى تحقق الغرض المراد؛ لذلك قال تعالى: (ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) ويستخدم لفظة (ريب) مع المشركين والمنافقين لأنهم تجاوزوا الشك ودخلوا في التهمة، وفي مقام آخر (فإن كنت في شك) مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فانتقاء الألفاظ بعناية في حديثه عن كتابه ولن تجد أبلغ وأصدق من رب العالمين. وفي حديث القرآن عن القرآن قوله: (ذلك الكتاب) فاستخدم اسم الإشارة البعيد وحيناً يستخدم الإشارة القريبة وهو يتحدث عن القرآن وهذا وجه من وجوه الإعجاز، فغالبًا إذا كان الحديث في سياق الكافرين استخدم الأداة البعيدة، لإبعاد الريب والتهمة عنه وفي قوله (لو أنزلنا هذا القرآن) إشارة إلى قرب المؤمنين من القرآن تلاوةً وتدبرًا وقربه منهم، فقوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) لقربه من نفوس المؤمنين لم يكن بحاجة إلى اسمٍ ليعود إليه. يقول تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فإن كنا نقول بأن اللغة العربية لغة الإيجاز والبلاغة هي الإيجاز فلا بد أن يتجلى هذا الإيجاز أو تتجلى هذه البلاغة في القرآن الكريم ولذلك تجلى فيه الإيجاز بنوعين سواء كان إيجاز «حذف» أو إيجاز «قِصَر». واستشهد في إيجاز الحذف بقوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطًا مستقيما) ثم قال (يستفتونك) «أما» قطعًا في اللغة العربية تفيد التفصيل وكأن المعنى حاضر من خلال المقابلة وكأن الكافرين الذين لم يؤمنوا بهذا القرآن هم أحقر من أن يذكروا ولذلك همشهم ولم يأتِ بذكرهم عندما كفروا بأمرٍ عظيم. وعن إيجاز القصر استشهد بقوله تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك مبارك) مستفسرًا كم من الوقت يكفيك حتى تفصل فيما هو مبارك، وهذا الكم الكبير تم التعبير عنه بكلمة واحدة «مبارك» ومن الصعوبة أن تختصر المعاني بدون حذف ولذلك افتخر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أوتيت جوامع الكلم) فطوى الله على لسانه الألفاظ. وقال: تأملت التشبيهات في القرآن الكريم وقلّ أن يذكر وجه الشبه، بل يكاد يطرد هذا الأمر فلو ذُكر وجه الشبه لا نحصر العقل في المذكور وهذا الذكر يغلق باب التأمل، فالحذف يفتح باب التأمل، ومن بدائع التشبيه في القرآن أنه يذكر صورة متكاملة متعددة الأطراف ليعطيك مجالاً للتأمل. وقال: إن من جماليات الحذف أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب وتسلك فيه كل مسلك ولو ذكر لانحصر العقل في المذكور. واختتم المحاضرة بشاهد أخير متسائلاً مادام القرآن نزل للتأمل والتدبر فلماذا يحدث العكس؟ قالها رب العالمين في آية صريحة (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها) وهذه هي الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها ونعرف السبب فـ (أم) هنا بمعنى (بل) حتى صيغة الاستفهام تفتح باب النقاش، فقلوب هؤلاء شبهها بالصناديق لكن حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه: الأقفال وكأن في هذه الآية إعجازًا غيبيًا أنهم سيموتون على شر حال لأنها مغلقة لن يخرج منها الكفر ولن يخرج منها النفاق ولأنها مغلقة لن يدخل فيها الإيمان ولن يدخل فيها القرآن فستموت على شر حال، ولذلك يقول بعض المفسرين لما نزلت آية (تبت يدا أبي لهب وتب) ثم قال في الأخير (سيصلى نارًا ذات لهب) قال لو كان الكافر أمْر إيمانه بيده لأسلم حتى يبين أنه لن يصل هذه النار، لكن لأن أمر القرآن والإيمان بيد رب العالمين فهذه الأقفال لن تفتح إلا بتأمل القرآن الكريم وتدبره. وقال: إن الغريب أن أكثر حديث القرآن عن القرآن في العهد المكي وهذا له دلالة أن نحرك به عقولنا، فمن الناحية الزمنية أمرٌ طبيعي لأن الفترة الزمنية التي قضاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة أكثر من الفترة الزمنية التي قضاها في المدينة، لكن فيها إشارة ودلالة على أن القرآن الكريم من أكثر القضايا التي كان فيها النقاش والجدل مع المشركين ولم يشغل قلوبهم كثيرًا إلا قضية القرآن لذلك أخذ هذه المساحة الواسعة. وفي الختام قال: إن هذه المحاضرة دعوة لنا للتأمل والتدبر في القرآن فنحن لا نضيف شيئًا للقرآن في التأمل ولكن نضيف لأنفسنا ومن الحرمان والخسارة أن نعرض عن هذا الكتاب المعجز، ولا بد أن نبذل الأسباب حتى نصل إلى هذا الخطاب، وأكد بأن التأمل شيء والتفسير شيءٌ آخر، ومن بعض الكتب المهمة جدًا هو كتاب (الهدى والبيان في أسماء القرآن) جزءين للشيخ صالح البليهي يكاد يكون هذا الكتاب مغمورًا لكن فيه من الأسرار والنكت البلاغية عن القرآن الكريم ما يفيد في هذا الجانب، وكتاب الدكتور محمد الراوي رحمه الله (حديث القرآن عن القرآن) يفيد أيضًا في هذا والسبيل الأول والأخير أن تكون ملمًا بالبلاغة العربية حتى تكون قادرًا على الدخول في عالم بلاغة القرآن وإعجازه. تلا ذلك جملة من الأسئلة والتعقيبات والمداخلات التي أثرت الموضوع؛ ممّا هو مرفوع في قناة مركز حمد الجاسر الثقافي على اليوتيوب وحسابه في تويتر. جدير بالتنويه أن دارة العرب ستستهلّ نشاطها المنبريّ مستهلّ العام الدراسيّ القادم؛ لتواصل عطاءها كما بدأها رائدها علّامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله.

مشاركة :