"البؤساء" يعودون إلى فرنسا من خلال مهرجان كان

  • 5/18/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لادج لي المولود لوالدين من مالي، أخرج قبل فيلمه الجديد “البؤساء” Les Misérables أفلاما قصيرة وتسجيلية، من أهم هذه الأفلام فيلم “365 يوما في مونفيرمي- كليشي” الذي أخرجه عام 2007 عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، ويرصد فيه وقائع العنف التي اندلعت في 2005 في حي بوسكيت الذي يقيم فيه لادج وهو نفسه مسرح أحداث فيلمه الروائي الأول “البؤساء” الذي ينافس به على سعفة مهرجان كان الـ72. ويبدأ الفيلم باحتفالات الشباب في الشانزليزيه بفوز فرنسا ببطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2018، ولكن ماذا تخفي صورة الشباب الأسود الذي يعلن من خلال فرحته انتماءه لفرنسا، وهل ستستمر الفرحة أم سيعود الغضب المكتوم إلى التعبير عن نفسه؟ صور التدني الاجتماعي ينجح لادج في الجمع بين أسلوب الفيلم البوليسي المثير الذي يتضمن الكثير من المطاردات والمشاجرات والاشتباكات التي تدور في إيقاع لاهث، وبين الفيلم الاجتماعي الذي يتوقف أمام أنماط الحياة داخل “الغيتو” الأفرو- فرنسي، ولكن ربما لا يصل إلى مستوى التحليل العميق لظاهرة غياب الثقة والتشكك والميل إلى العنف المتبادل بين الشرطة وسكان الأحياء الهامشية من الملونين ذوي الأصول الأفريقية، خاصة أبناء “الجيل الثاني” من المراهقين والأطفال الذين ولدوا ونشأوا في فرنسا. ولكن من بين أسباب براعة هذا الفيلم الذي صوّر في “بوسكيت” أشهر أحياء الجريمة والعنف في العاصمة الفرنسية، أنه يجعلك تتساءل طوال الوقت عما إذا كان ما تشاهده من منازل ومحلات وشوارع، وأوضاع حياتية متدنية، وفوضى وفقر وتجمعات سكانية بائسة، ومظاهر عربدة وتمرد وممارسات خارجة عن القانون، كل هذه الصور والمظاهر يمكن أن تكون في فرنسا حقا!عنوان الفيلم “البؤساء” لا علاقة له برواية فيكتور هوغو الشهيرة التي تدور في باريس القرن التاسع عشر، لكن العنوان مقصود لخلق مقاربة بين بؤساء الماضي والبؤساء الجدد الذين أصبحوا من المهاجرين الملونين وأبنائهم. والسيناريو الذي اشترك المخرج في كتابته مع اثنين من كتاب السيناريو هما الفرنسي ألكسيس مانيتي والشيلي جيوردانو جيدرليني، يسعى إلى تحقيق نوع من التوازن في المعالجة والعرض، بين الشرطة وسكان الحي، فكل طرف يبدو في الفيلم كما لو كان ضحية للآخر على نحو ما. ورغم قسوة وفظاظة وعنصرية الشرطة بشكل عام، إلاّ أن لدينا أيضا “الشرطي الطيب” الذي يرفض الممارسات العنيفة، ويبدي وجها إنسانيا في التعامل مع الشباب الذي يثور ويغضب ويتجه إلى الحرق والتدمير كرد فعل ونوع من الانتقام. ويخلق السيناريو حيلة درامية تصبح مدخلنا إلى اكتشاف الحي ومراكز القوى القائمة في داخله، لكن ربما تكون صورة الحي الذي تقطنه أغلبية من ذوي الأصول الأفريقية، صورة ناقصة يعوزها التعمق والكشف عن النماذج الإنسانية الحقيقية وراء ذلك القناع الخارجي الصارم من القسوة والرفض والتمرد والغضب والفساد. تتعاقب الكثير من المشاهد في النصف الأول من الفيلم من داخل سيارة الشرطة التي تجوب الحي الخطر باستمرار لرصد الحالات التي تدعو للاشتباه في أمرها، حتى لو ثبت كما يحدث بالفعل، أنها بريئة تماما ولا تمثل أي خرق للقانون. داخل السيارة ثلاثة ضباط: اثنان لهما باع طويل نسبيا في الخدمة ضمن “وحدة مكافحة الجريمة”، أولهما هو “كريس” العنصري الفظ الذي يتجاوز كثيرا ويضرب بالقانون عرض الحائط ويعتدي ويهدد ويصادر، وعندما يواجه من يذكّره من الجانب الآخر بالقانون، يصرخ “أنا القانون والقانون أنا” على غرار مقولة لويس الرابع عشر الشهيرة “أنا الدولة والدولة أنا”. والضابط الثاني، هو “غوادا” وهو أيضا ابن هذا الحي نفسه وينتمي لأصول أفريقية مثل معظم سكانه، لكنه يرى أن العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تكفل السيطرة على الحي. أما الثالث، فهو “ستيفان” الذي انتقل مؤخرا إلى العمل في وحدة مكافحة الجريمة وانضم الآن إلى كريس وغوادا في القيام بأعمال الدورية، ولكنه يلتزم بما درسه وتعلمه، فهو يحترم القانون، ويعترض على كل ما من شأنه إثارة غضب السكان، ويسعى دائما للتوصل إلى حلول وسط للمشاكل التي تقابل المجموعة خلال احتكاكها بالسكان. أما الحيلة الدرامية التي تدخلنا في قلب الدراما فتبدأ مع هجوم مجموعة من الرجال التابعين لسيرك روماني على مقر رئيس بلدية الحي أو “العمدة”، وهو بدوره أفريقي الأصل من المهاجرين، لكنه لا يجد وسيلة لحفظ السلام في الحي إلاّ من خلال التعاون مع رجال الشرطة والتغاضي عن فسادها، بل ويصبح بدوره ضالعا في الفساد، يقدم للضابطين بعض الهدايا والخدمات كما يستعين بمجموعة من “البلطجية” لإنفاذ إرادته وقت اللزوم. والآن يتهم صاحب السيرك أحد أتباع العمدة في الحي بسرقة شبل من حظائر السيرك ويهدد بتدمير مقر البلدية إن لم يعيدوا الأسد الصغير إليه، لكن الواضح أن هذا الرجل الروماني الوغد يدفع أيضا للشرطة، لذلك يتعهد له “كريس” بالعثور على الأسد الصغير المسروق، لكن لا أحد يعرف أين هو ومن الذي سرقه؟ وعندما تبدأ عملية البحث يصطدم رجال الشرطة بمجموعة من أطفال الحي وتبدأ المتاعب، وفي مشهد من أقوى مشاهد الفيلم وفي لحظة شعور بالحصار الخانق والفزع يطلق غوادا النار على أحد الأطفال فيصيبه في عينه. تحذيرتتوتر الأجواء وتتصاعد حالة الفزع أكثر بعد معرفة أن هناك من قام بتصوير الحادث من طائرة (درون) صغيرة، ويبدأ البحث المحموم عنه ويتضح أنه أحد أطفال الحي الذي لا يلجأ إلى مدير البلدية، بل إلى زعيم جماعة الإخوان المسلمين في الحي وهم أيضا من أصول أفريقية، يتزعمهم رجل متجهم يدعى “جمال” يبدو في الفيلم كزعيم عصابة، يرفض التعاون مع الشرطة أو الخضوع لتهديدات كريس، غير أن ستيفان يتمكن من إقناعه في نهاية المطاف بتسليم الشريحة التي تحتوي على الفيديو الذي يصوّر الحادث والذي يمكن أن يتسبب في إثارة أحداث شغب واسعة النطاق إذا ما تسرب للرأي العام. الفيلم يقول إن سوء التفاهم يمكن أن يقع بين الشرطة والأهالي نتيجة اختلاط الجد بالهزل، أو بسبب ممارسات بعض الأولاد غير الناضجين، وإذا كان يدين استخدام العنف من جانب الشرطة، فهو يدين في الوقت نفسه، نزق وحماقة الأطفال الذين يعلنون الحرب على الشرطة ويلجأون إلى العنف المضاد في صورة تتخذ شكل ثورة مسلحة تستخدم فيها أسلحة نارية صنعها الأولاد، ومطاردات داخل المجمعات السكنية الأسمنتية البشعة التي يقطن فيها هؤلاء، وهي من بين المشاكل التي تعيق عملية “الإدماج” التي تطالب بها الدولة المهاجرين، فهي أقرب إلى سجون جماعية مكتظة بالنزلاء أو مخيمات للعزل الاجتماعي. نماذج السود في الحي الهامشي سلبية ونمطية وتخفي الكثير وراء الأقنعة الخارجية، بينما لا تفتقر نماذج الشرطة لوجود شرطي شريف على شاكلة “ستيفان” الذي يتمكن من نزع فتيل التوتر في اللحظة الأخيرة.مشاهد الحياة اليومية في الحي: داخل المطعم الذي يديره جمال، أو في مقر مدير البلدية، أو في أوساط السيرك الروماني وعصابة البلطجية التابعين للعمدة، كلها أقرب في الأسلوب إلى الفيلم التسجيلي، ولا غرابة في ذلك بسبب خبرة المخرج في مجال الأفلام التسجيلية، وهو يتخذ من سيارة الشرطة مكانا متحركا يضع فيه الكاميرا التي تتابع في مشاهد طويلة الكثير مما يحدث في الحي. ويتميز الإيقاع العام للفيلم بالتدفق والسخونة والسرعة مع تنويع متعمد لزوايا اللقطات والإكثار من استخدام الزوايا المرتفعة منها ما هو مصوّر من طائرة مروحية، للإحاطة بأبعاد المكان وخلق علاقة مباشرة بين السكان والمكان في شكل قريب من “السينما المباشرة”. وعلى الرغم من الملاحظات المتعلقة بنمطية بعض الشخصيات، والإفراط في مشاهد الإثارة البوليسية والمطاردات وكلها مصنوعة بدقة وإتقان وبراعة شديدة من خلال التحكم في الحركة وبناء المشاهد عبر مونتاج قوي متمكن، يجب الإقرار بأن الفيلم يمتلك أرضية قوية يطرح من خلالها موضوعا شديد المعاصرة يتعلق بأزمة حقيقية قائمة في المجتمع الفرنسي والسياسات التي تعجز عن التعامل مع وضعية الأقليات المهاجرة ممّا ينتج كل هذا التوتر والعنف من وقت إلى آخر. ولا شك أن من أهم مزايا الفيلم الفنية مجموعة الممثلين الممتازين في الأدوار الرئيسية الذين ينجح المخرج لادج لي في تحريكهم والسيطرة عليهم ومزج المحترفين منهم بغير المحترفين من أبناء الحي الذين شاركوا في الفيلم، بأعداد كبيرة في أدوار ثانوية مما أضفى الطابع الواقعي على الفيلم ونجح في شد المتفرج وجذبه للتفاعل مع شخصيات الفيلم وموضوعه.

مشاركة :