بعد أيام من توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إعلان تعترف الولايات المتحدة بموجبه بسيادة إسرائيل "الكاملة" على مرتفعات الجولان، وخلال انعقاد القمة العربية في تونس، ألقى رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون كلمة ذَكَرَ فيها أن هذا الإعلان يُهدّد سيادة الدولة اللبنانية على أراضي مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي قضمتها إسرائيل، وأن المُلكية اللبنانية لهذه الأراضي "مُثبتة بالوثائق والخرائط المُعترف بها دولياً". وفي حين تضمّن التحليل الكمي لهذا الخطاب ذكر كلمة شبعا مرّة واحدة، فقد أتى على ذكر كلمة النازحين في خطابه عشر مرّات. وهذا يدل على أن ملف استعادة مزارع شبعا لا يحظى بأولوية كافية في جدول أعمال الرئاسة ووزارة الخارجية. في الواقع أن سيادة لبنان على المزارع، وبعكس ما قاله رئيس الجمهورية، ليست مُثبتة بالوثائق الموجودة لدى الأمم المتحدة. وأن لبنان يحتاج إلى عملية ترسيم لحدوده مع سورية في هذه المنطقة. وفي حال عدم تَوافر إمكان الترسيم على الأرض بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي، يمكن إذ ذاك القيام بالترسيم على الورق، أو تسليم السلطات السورية لبنان والأمم المتحدة وثيقة تثبت "لبنانية" المزارع، وهذا الأمر امتنعت القيادة السورية عن القيام به بهدف الإمساك بلبنان في إطار وحدة المسار والمصير، وإبقاء الذريعة لسلاح حزب الله، واكتفت ببعض التصريحات الإعلامية التي لا تقدم ولا تؤخر في هذا الموضوع. كل ما تقدم ليس تفصيلاً صغيراً بالنسبة إلى لبنان لأنه يرتبط بسياقين مُهمّين؛ الأول: هو أنه يكشف سطحية وتبعيّة السياسة الخارجية للبنان في هذا العهد، وحجم القصور الذي يفقد لبنان إمكان بناء مقاربة رصينة ومستقلة لسياسته الخارجية، بحيث تعطي الأولوية للمصلحة اللبنانية فقط. هذا التردي يدفع المسؤولين في الرئاسة والخارجية إلى التركيز على موضوع النازحين وتقديمه بطريقة غير لائقة، بالتوازي مع تجاهل ضرورة حل المسائل العالقة بين لبنان وسورية، ومنها الترسيم في شبعا أو تسليم الوثائق المطلوبة، والكشف عن المفقودين اللبنانيين في السجون السورية، وتفكيك المعسكرات التابعة لتنظيمات فلسطينية تعمل لمصلحة النظام السوري، إضافة إلى كثير من القضايا الشائكة. والثاني هو: أن إبقاء الوضعية القانونية لمزارع شبعا على هذه الحال سيؤدي إلى ضياعها مع الجولان، إضافة إلى تحكّم نظام الأسد بإشكال تأكيد أو نفي احتلال إسرائيل لأراضي لبنانية، وبالتالي مشروعية قيام لبنان بما يلزم لأجل استعادتها. ذلك في وقت أخذ فيه لبنان بالوساطة الأميركية لترسيم حدوده البرية والبحرية مع إسرائيل بهدف طمأنة الشركات المُستثمِرة في قطاع النفط وذلك بتوافق كل قياداته. إن تجاهل لبنان لأهمية استعادة الإمساك بقراره الاستراتيجي من هذه الزاوية، وإظهار عجزه عن التحكّم بالأوراق الموجودة لديه، من شأنه تعريض لبنان لاحتمال تلزيمه أو استجلاب وصاية جديدة بطريقة أو بأخرى. فالهندسة التي يقودها كوشنر على مستوى الملف الفلسطيني تحتاج إلى سلسلة صفقات موازية تشمل دول المنطقة وتنعكس على التوازنات القائمة كافة، وتتحضّر سورية لذلك انطلاقاً من المُعادلة التي قضت بتأهيل نظام الأسد والتي تتولّاها روسيا. بالتوازي فالمعادلة التي قالت بإضعاف إيران مقابل تسهيل العرب لتمرير "صفقة القرن"، إنما تهمّش الدور التقليدي الذي اعتادت سورية على القيام به وتنزع عن نظامها صفة المُمسك بالأوراق التي حاز عليها منذ اتخذ جانب الصمود والتصدي بعد كامب ديفيد ودخوله إلى لبنان. طبعاً هذا في الواقع، لكن ما يدور في عقل الأسد مسألة أخرى. فالصفقة، وإضعاف إيران، يشكلان فرصة لإعادة الانخراط، وقد قدّم له نتانياهو الجولان كعنوان قابل للمساومة مقابل بقاء النظام، وربما يعزز ذلك أمال الأسد بالتطلّع إلى لبنان من جديد. الظروف مشابهة للوضع الذي نشأ بعد اتفاق فك الاشتباك بين سورية وإسرائيل عام 1974 التي أفضت إلى ضمان الحدود الشمالية من الجهة السورية والتطلُّع إلى لبنان بما فيه من أوراق تمثلّت في المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. الأسد الأب بدأ عمله في إثارة القلائل في لبنان وتكفّل هنري كيسنجر بالباقي. وكانت النتيجة تأجير الجولان لأمد طويل مقابل الإمساك بالأوراق التي تدخل في المساومة مع إسرائيل من الجهة الشمالية. وبذلك نجح الأسد في تحويل سورية إلى فاعل قوي وفاقَمَ الحاجة إلى نظامه لترتيب المنطقة. جرى الدخول إلى لبنان في صفقة استمرت لأكثر من ربع قرن، وخلالها أدار حافظ الأسد أوراقه في معادلة تَوازُن ولَعِبْ أدوار على حساب اللبنانيين والفلسطينيين، وأعاد تجديد هذه الصفقة في مدريد عام 1991. جملة وقائع تجري في لبنان وتشي بالتحضير والعمل لإعطاء دور للنظام السوري. حلفاء الأسد في الوزارات يُسخّرون جزءا من مهامهم لأجل مساعدته على إعادة النهوض والانخراط. السياسة الخارجية اللبنانية تجهد لإعادة سورية إلى مقاعد الجامعة العربية، والرئيس اللبناني يطرح نظرية مشرقية لحماية الأقليات، والكل عينه على حصة من إعادة الإعمار في سورية. وبالتوازي يُجري حلفاء إيران عملية ربط لجبهات الممانعة وساحاتها تتخطى مزارع شبعا والحدود مع العدو لتصل إلى النقاط الاستراتيجية في كامل الجغرافيا اللبنانية، بما فيها تلال عين دارة المُشرفة على جبل الشوف ووصولاً إلى جرود جبيل. النقاش الذي دار على خلفية تشكيك وليد جنبلاط برغبة الأسد في ترسيم الحدود في منطقة مزارع شبعا كشف تلك الحقيقة، الأسد يمسك بالقرار اللبناني من هذه الزاوية، وأتباع إيران في لبنان يمسكون بالذريعة التي تبقي صواريخ إيران على الطاولة، والسؤال الآن عمن يدير هذه الورقة في حال دخلت إيران في مفاوضات مع الولايات المتحدة أو في حرب ولبنان مكشوف؟ بالتأكيد حكومة لبنان والرئيس القوي والكتل النيابية القوية ليس بيدها حيلة، ورعاة الصفقة الجديدة يبحثون عمّن لديه القدرة، والأسد يحلم ويتحضّر!
مشاركة :