في العاشر من نوفمبر 2017 ضمن فعاليات معرض الشارقة للكتاب التقيت به ضمن الوفود الأدبية والثقافية المشاركة في فعاليات معرض الكتاب، كان يحذق في مفاصل الأشياء ويبتسم لكل من يصافحه بالتحية أو بالابتسام، عميق في رؤيته الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولأني أميل إلى الأدب أكثر من ميلي إلى السياسة جذبتني شخصيته المخضرمة فاقتربت منه ملاطفًا: أيها السيد الليبي كيف حالك، فرد بلطف وأدب أهلاً الشاعر علي، فتعجبت انه نطق باسمي قبل أن أعرفه بي، فقلت له: ها أنت تعرفني؟ فقال: ومن لا يعرف علي الستراوي، فخجلت من تواضعه وبادرته بالحديث المبدع أحمد إبراهيم الفقيه أتأذن لي بمحاورتك فرحب وقال في أي وقت تحت: وبالفعل تواعدنا فكان قد سبقني منتظرا مجيئي، وحينما أتيت انشغل كعادته بالترحيب، أهلا بشباب البحرين، أهلا الجميل احمد، رأيته جميلا بقلب واسع يحمل من الطيبة العربية الخصال الحميدة التي درج عليها أجدادنا العرب، كان جالسا وأسارير وجه تحمل أوجاع أزمنة بعيدة عرفها من خلال كفاحه المستمر ودفاعه المستميت عن الأدب، شيخ تخطى عمره السبعيني، لكنه ما زال بذاكرة شبابية تغري أي إعلامي بمحاورته والحديث معه. الأديب أحمد إبراهيم الفقيه ابن بلدة مزدة من طرابلس الليبية، حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أدنبرة، بدأ النشر والكتابة في الصحافة الليبية منذ عام 1959م، كما عمل في عديد من المؤسسات الصحفية وأسهم في تأسيس اتحاد أدباء ليبيا من مواليد 28 ديسمبر 1942. عمل سفيرا في أثينا وبوخاريست وأستاذًا جامعيًا محاضرًا في الأدب العربي الحديث بجامعات ليبية ومغربية ومصرية. له بعض الأعمال الخالدة كمجموعته القصصية «البحر لا ماء فيه» الفائزة بالمركز الأول في اللجنة العليا للآداب والفنون في ليبيا وله العديد من الروايات مثل «حقول الرماد وفئران بلا جحور والطريق إلى قنطرارة والعائد من موته وخفايا القصر المسحور، بالإضافة إلى الكتابات النقدية والأدبية المختلفة. أحزنني رحيله المفاجئ بداية شهر مايو 2019 وقد أخذني الوقت سريعا حيث مر عام على لقائي به والحوار معه ولم أنشر هذا الحوار لشدة انشغالاتي، وها أنا أنشر هذا اللقاء وقد يكون آخر لقاء أجري معه، رحمة الله عليه والصبر والسلوان لمحبيه وذويه، وأدباء العالمين العربي والغربي. * بعد مشوار أدبي طويل في سبر الأدب العربي والعمل الصحفي والعمل الدبلوماسي، كيف للقارئ العربي أن يطلع على هذه السيرة؟ - في الحقيقة لا أدري كيف أبدأ، لأن حياتنا نصوص، ليست حياة واحد منخرط في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو العلمية لتكون حياة فيها صفحات مطوية، بل هي صفحات مفتوحة لأن ما أنجزته هو صفحات منشورة ومعروضة للناس، ضمن كتاب تنوعت فيه أغراض أدبية، فإنجازي الإبداعي والفكري والصحفي عبارة عن كتاب منشور ولكل الناس ميسر الاطلاع عليه، وهو موضوع في الشبكة العنكبوتية مدون بإنجازاتي، فليست هناك صفحات مطوية، لأن في رصيدي الأدبي 24 رواية و31 مجموعة قصصية و9 أعمال سيرة ذاتية ومجلدات 42 نصا مسرحيا وأعمال أخرى من أدب التراجم وأعمال أخرى ككتب ارتبطت بزاوية كنت أكتبها في الصفحات الثقافية. وليست هناك صفحات في حياتي مطوية، بل هي مفتوحة وموضوعة في الشبكة العنكبوتية، تحكي سيرتي التي بدأت منذ كنت طفلا يتلمس أبواب العلم حتى أصبحتُ شيخًا حفرت في قلبي الحياة بإزميلها، فكنت ذلك الطفل الذي حلم فأنجز حلمه. ذلك الحلم الذي احتفظ برصيدي الحالي زهاء مائة وعشرة كتب، وما كتب عني وأرسل لي 30 رسالة دكتوراه وماجستير وما ليس في الموقع أنا أحد الذين كان لأدبهم ما أغرى عدد من المترجمين والناشرين. * لماذا هذا الاهتمام بأدبك؟ - أقول لك: لعاملين، الأول كوني عشت في البيئة الثقافية البريطانية التي خولت لي التقائي بالأدب الأجنبي والعربي، وكنت أشرف على رئاسة تحرير مجلة عربية ورئيس لمؤسسة خيرية، وأكثر كتبي الكبيرة صدرت في بريطانيا. ولي من الكتب 15 أو أكثر ترجم إلى الأجنبية والصينية، ونقل أحد المستشرقين ثلاثيتي «عقول الرماد» إلى الفرنسية والصينية، ومن الكتب المترجمة لي إلى الصينية 5 كتب تجرمت لي عن اتحاد كتاب الصين. وليس في إنتاجي غرائبية أو انغماس في البداوة أو الصحراء، فأنا جلتُ وتجولت في العالمين الغربي والأجنبي، وجلتُ في آسيا وإفريقيا ما أكسبني دراية عن هذه الشعوب وعن علاقاتهم الاجتماعية والسياسية والأدبية ما أعطاني القدرة على نقل صورة لهذه المجتمعات عبر أدبياتي. فأدبي أو ما كتبته من أدب مليء بأصداء ما عشته أو كتبته وليس فيه غرائبية، أنا عشت سنوات في بريطانيا والمغرب ومصر ورومانيا فعرفت كيف أبني جسور اتصالي بهذه البلدان وأنقل صورة من حياتهم وعاداتهم عبر أدبي. فما كتبته من أدب هي أصداء تجوالي في هذه البلدان، وما ظهر في هذا الأدب من روح التجلي هي نتاج ارتباطه بالجوانب الإنسانية، رابطة إنسانية عابرة لقارات ولأزمنة ولأجناس وثقافات متصلة بعضها بعضًا. وما ظهر في هذا الأدب أكد بحثي عن الجوانب الإنسانية في جوهرها الذي ربطني بها برباط ثقافي متقارب في ثيمته وتأثيره في مكنوني الذي استلهمته من خلال اندماجي بهذه المجتمعات. ومهما نظرنا بسوداوية إلى القبة البريطانية في العصر الاستعماري، لكننا لا نستطيع نكران أو تجاهل أدب شكسبير الذي يعد أهم أدباء العالم، ولا يعني لعننا للحقبة البريطانية تجاهلنا للنتاج الأدبي الثقافي المتمثل في المبدعين مثل أدب شكسبير الذي نحتفي بعيد ميلاده وبإنتاجه وبإبداعاته في كل عام، كونه أهم شخصية في الألفية الثانية، العالم اتفق على أنه شكسبير، في المنجز الأدبي الذي يلتقي حوله البشرية. وفي اندماجي في المجتمعات التي عشت فيها وفي بيئات مختلفة جسدت ذلك البعد الذي قربني منها كأديب يعيش واقعه والبيئة التي عشت فيها، وفي كل هذه البلدان تركت فيها بصمة، بقيت كجسر امتد بعطائه في أدبي. * يوجد جانب آخر في تجربتك ارتبط بالصحافة.. فماذا أفادتك الصحافة في مجالك الأدبي، وما الجانب المضيء في هذه التجربة، في اكتشاف شخصيات روايتك وقصصك؟ - نحن ذهبنا إلى الصحافة اضطرارًا وليس اختيارًا، كونها الأقرب إلى مهنة القلم، فأنت تكتشف ميولك الأدبية وأنت صغير، وأنا مولود في قرية ليس فيها إلا مدرسة ابتدائية واحدة ومطوع لتعليم القرآن صفوفها لا تتعدى الرابع الابتدائي، وكان طموحي أوسع، وكانت الاختيارات قليلة وأنا بداخلي إصرار عنيد على أن أكمل تعليمي بعد حياتي العملية، ولكن في البداية كنت أبحث عن زوادة العالم من خلال طموحي الذي ساعدني على الخروج من قريتي إلى عالم أوسع اتلقى فيه الدروس في مراحل متقدمة أكثر. وكانت الصحافة بالنسبة إلي قد بدأت مبكرًا بجانب اكتشافي لميولي الأدبية الأخرى، وتبدو الأشياء لمثل طموحي ثقيلة على قلبي أن تستقي مهنة أخرى تبعدك عن أدبياتك، فكانت الصحافة بجانب موهبتي المبكرة ساعدتني على التنقل والذهاب نحو إشباع طموحي والخروج من ضيق القرية إلى المدينة الواسعة التي ساعدتني على التعلم، كوني أكملت تعليمي في عمر 17 أو 18 سنة بعد المرحلة العملية، فكانت الصحافة أقرب إلى ميولي، إذ ساعدتني أكثر على العيش، ففي الصحافة وجدت ضالتي، كونها أقرب إلى ميولي، بعيدًا عن العمل في ورشة نجارة تقتل موهبتي الأدبية داخلي. وفي تجربتي الخاصة في الصحافة ألا أضحي بالجانب الأدبي على حساب الصحافة، فإنني جلست مع الصحافة كزائر ولست منغمسا فيها، فعملت لعدد كبير من الصحف، وأسست صحيفة أدبية أسبوعية ركزت فيها على الجوانب الثقافية والأدبية، كانت الصحافة أقرب الأبواب يسرًا بالنسبة إلي لانها أقرب إلى ميولي. والصحافة لها سلبيات وايجابيات، وفي تجربتي الخاصة علمتني أن أكون واعيًا وألا تجرني الصحافة عن عالمي الأدبي، بقيت في الصحافة مركزا على الجوانب الثقافية. * إذن ما الذي اكتشفته من مزايا الصحافة؟ - من مزايا الصحافة أنها تضعك مع قضايا المجتمع في اشتباك دائم، أي في قلب الحدث. وقد بدأت مع الصحافة بالأعمدة اليومية التي قربتني من الناس أكثر وجعلتني، في تماس يومي مع المجتمع وقضاياه. وكنت مع الصحافة شديد الحذر حيث تجنبت الدخول في الجوانب الأخرى من الصحافة مثل التحقيقات أو الأخبار، لأني أحرص على أن يكون الجانب الأدبي هو الذي يؤسسني ككاتب أكثر مما يعطيه لي الخبر أو الاستطلاع أو التحقيق أو التقرير حيث دخلت عالم الصحافة بشروطي كإنسان واعٍ بضرورة حماية وصيانة الجانب الأدبي لدي، فأنا إلى حد ما راضٍ عن تجربتي مع الصحافة التي حققت فيها هذا التوازن الذي أعده إيجابيا في تجربتي مع الكتابة. * في جانب آخر من تجربتك كنت رئيسا لمعهد الموسيقي، وكنت كاتبًا للمسرح، فعن كلا الجانبين حدثنا؟ - بدأت حياتي بموهبة أو ميل إلى المسرح منذ طفولتي، وفي المدرسة الابتدائية في قريتي الصغيرة التي لا تتعدى صفوفها الرابع ابتدائي وبعد تخرجي فيها أضيفت لها صفوف أخرى حتى السادس الابتدائي، عملت مع مجموعة من الشباب قريبين من سني بعض المسرحيات الصغيرة أو المشاهد الموجهة بأسلوب الإرشاد والنصح حبًا في المسرح، وتقليد ما يرسم علامات ذات إيحاء مسرحي غدا جزءًا من حبي للمسرح. وفي سن صغيرة كنت لم أتعد العشرين ربيعًا وفي المدينة الليبية أسست المسرح الجديد وأنا مديره ومخرجه والمسؤول الأول والأخير عن النشاط المسرحي فيه منذ الستينيات من القرن الماضي وكل هذه الخطوات جاءت بما أملكه من موهبة حيال المسرح. * كيف تسنى لك أن تلمس فضاء المسرح وتنغمس فيه؟ في البدء، لمست الحركة المسرحية بشكل حركة جوالة، لعدم وجود بيئة مسرحية ثابتة أو مؤسسة قادرة على استيعاب مفهوم المسرح، رغم انتسابي بعدها إلى فرقة حكومية أعطتني الفرصة لدراسة المسرح في بعثة أرسلت لها من قبل الحكومة. فالمسرح جزء من تكويني ومشكلة المسرح أنك لست قادرًا بمفردك على عمل شيء، فالجهد الفردي لا يعطي مسرحًا، المسرح جماعي من مخرج وممثلين، فهذا يأخذ منك جهدا، عكس الكتابة التي بمفردك تغطي فيها كل الجوانب وفي أي وقت تريد الكتابة من دون الحاجة إلى من يساعدك أو يشارك إنتاج فكرة أدبية تأتي من خلال الإلهام الذي يبني علاقته بقلبك وعقلك من دون حاجة ماسة إلى من يسندك. ومن هذا الجانب بالنسبة إلى إشارة قادتني نحو قنوات الإنتاج التي تتنوع وتتوسع أمام خطواتي. فعندما ذهبت إلى بريطانيا لدراسة المسرح وعدت إلى ليبيا، كان في ليبيا معهد موسيقي للتمثيل والمسرح، فصرت مديرًا له باعتباري متخصصا أكاديميا، كتبت من خلاله وأخرجت للمعهد بعض الأوبريتات ومثلت ضمن طاقمه التمثيلي. * خلاصة التجربة كيف تقرأها عبر هذا المشوار بين الأدب والثقافة؟ - التجربة في مشواري لست من يحدد نجاحها أو فشلها، تجربة جعلتني في فرن الحياة واعيًا وبصيرًا لكل المتغيرات، فأنا لست على تواصل شديد مع كل المختلفات ولكن أؤمن بأن التغيرات السريعة وما أفرزته الحداثة من تكنولوجيا معاصرة فرعت بشجرة الكتابة عندي لكنه في جانب آخر حرمتني من الكثير المؤسس لتجربتي مع القلم. لكن لاشك أن الكثير من المتغيرات جاءت عبر الحداثة، ولا يعني موت القديم أمام الحداثة فشل كل شيء وضياعه، فالحياة هي التي تجعل من الإنسان أمام الحياة ذا قيمة فاعلة، ولم أنظر إلى الإنسان من منظور مظلم، بل أنظر إليه بإيجابية وبحس المبدع الذي لا يستكين تحت ظل ما ويغفو، فكم من الألم أن نرى عالمنا العربي مستهدفًا والتكالب عليه لسرقة خيراته أصبح واقعا ملموسا، وأصبحت المؤامرة مشغولة بالحروب التي خلقها أعداء أوطاننا العربية، طمعًا في خيراته المخزونة في باطن ترابه. * أنت في الشارقة من دولة الإمارات ضمن وفود معرض الكتاب، فماذا تقول عن الشارقة الثقافية وسيرة توجهها نحو سلام الكتابة وبناء الإنسان معرفيا وحضاريا؟ - ولأننا نتحدث هنا في الشارقة من دولة الإمارات العربية التي أرى في توجهها ما يفرح القلب ويعطي للنفس استقرارها وإيمانها أننا ما زلنا بخير وأننا مازلنا متمسكين بالمعرفة من خلال بناء الإنسان للإنسان عبر الأدب والثقافة وهو منهج لا يسقط بالدول بل يقومها، فهذا التوجه الذي إن استمر لا شك أنه سوف يقضي على كل ما هو سيئ ويأتي بالظل الذي ينتظره أي مثقف أو أديب وكاتب عربي وخليجي، فالرسالة التي تجسدت في الدور الثقافي عبر هذه المهرجانات الرائدة، هي الرسالة التي من المحال قتلها، فشكرًا لسادة الإمارات ولسلطان بن محمد القاسمي الذي تمسك بالكتاب نهجًا وعملا. والقادة الذين يتمسكون بهذا النهج من المعرفة لا يسقطون، فالشارقة وهي تنتهج الدور الثقافي عبر الإنسان في شتى توجهاته تؤسس لنا نحن الكتاب والأدباء سيرة البناء الذي يعلو بعلو رجاله. فالدور الريادي لحكومة الشارقة ليس لنا إلا أن ننحني له احتراما وتقديرًا، لأن ليس من السهل أن نبني حضارة متنوعة الاتجاهات في مشاربها الثقافية وتعاطيها مع البنية الفاعلة في المجتمعات عبر نتاج الإنسان المفكر والأديب من دون راعٍ مؤمن بقيمة الثقافة، فهذا يعد أكبر إنجاز أمام كل الهجمات البغيضة لقتل الإرث الحميد في مناسم الجسد العربي. وأؤكد أن ما يشيد اليوم في الشارقة من بناء عالٍ باسم الثقافة، هو إنجاز في استمراره لن نرى ذلك البغيض يندس في مناسم جسدنا العربي، بل سنرى أننا قد تجاوزنا كل أحلامنا وشيدنا قصور معرفتنا من طموح قادتنا في الخليج والوطن العربي. * سؤال لم أتحدث معك فيه وأنت تريد الحديث عنه؟ - لا يوجد سؤال، لكن يوجد حلم لم تكتمل أطرافه: أن نشعر بأننا على هذه الأرض بين ضالتين وإن كانت صغيرة، متى نرى سلام الثقافات علمًا يرفرف فوق بيوتنا من دون ناطحات السحاب التي تشجع الموت السريع وتذهب بأرضنا نحو فوضى الضياع، فالعلاقة مع الكتاب لا تذهب بك نحو ضياع إرث الجدود ومدائن شهرزاد ولياليها العذبة من الحكايات.
مشاركة :