يحاول الدكتور عبدالله قدير في كتابه «الجنون والعظمة» الصادر عن دار مدارك للنشر تصحيح بعض المفاهيم والأفكار الخاطئة السائدة في مجتمعاتنا حول الاضطرابات النفسية، حيث يبدأ كتابه بطرح الأسئلة حول مفهوم «المرض النفسي»، قائلاً «ماذا يدور بتلك المخيلة عندما تُقرأ أو تُسمع هذه الجملة؟ هل يعتقد الناس بأنها جزء من الجنون؟ أم عين؟ أم سحر؟ أو يعتقدون بأنها جزءٌ من منظومةٍ طبيّة لها قواعدُ وأسس؟». ويجيب: «لا أعلم حقيقة، ولكن أكاد أجزم بأن كثيرين في مجتمعنا يعتقدون أن المرض النفسي خليطٌ ما بين الجنون أو العين أو السحر، والقليل يؤمنون بتلك المنظومة الطبيّة ذات القواعد والأسس. الأمراض النفسية ذُكرت في عِدة أزمان مختلفة، وكل زمنٍ يُعرّف الاعتلال النفسي بحسب معتقداتهم. بمصر القديمة يُعتَقد بأن الاعتلال النفسي نتيجة لقوى خارجية تؤثر على قلب وعقل الشخص، وتصيب مشاعره مما يؤدي لاضطرابٍ بها، وبالهند القديمة يُعتَقد بأن الاعتلال النفسي له علاقة بعصيان الآلهة، وبالصين القديمة يُعتَقد بأن عدم توازن الين واليانج يلعب دوراً كبيراً في نشأة الاعتلال النفسي. اختلافاتٌ واسعة بين الثقافات القديمة في كيفية فهم الاعتلال النفسي، وتمييزٌ واضح دون علمٍ وأساس لتقف عليه الأدلّة والبراهين. التمييز وعدم الفهم ذاته يسري في شعوبنا قديماً وحتى هذه اللحظة رُغم وجود الأدلة الحديثة والقاطعة. الشفرة البشرية يقول الدكتور قدير: «لعل أعظم هديّة مُنحت لنا دون أن نَشعر هي جيناتنا، فالإنسان قبل أن يكون إنساناً كان نُطفة ثم أصبح عَلقة ثم أصبح مُضغة، فعندما يَتحد الحيوان المنوي مع البويضة تَنتج بويضةٌ مُخصّبة، ومن ثم تُسافر هذه البويضة وتَعبُر من قناة الرحم إلى أن تستقر وتلتحم بجدار الرحم، حيث تبدأ العديد من الانقسامات التي تُكوّن الإنسان لاحقاً. نحن نتائج هذه العملية الدقيقة، وما يُحدد نتائجها هو جينات أمهاتنا وآبائنا، وما حَدد نتائج الأمهات والآباء من قبلنا هم أجدادنا وهكذا، وكل هذا عن طريق الجينات التي مَنحت البشرية اختلافات لامُتناهية. وللأسف قاعدة العطاء ليست دائماً جيدة، حيث إن جزءاً كبيراً من الأمراض يتعلق بالجينات، وبالتأكيد سمعتم أو قرأتم عن أمراض وراثية معروفة بمجتمعنا كالأنيميا المنجلية وأنيميا البحر الأبيض المتوسط وغيرها، ولا يُستثنى من ذلك الاضطرابات النفسية، فالاضطرابات النفسية لها علاقةٌ وطيدة مع جينات الشخص، والفرق بين وراثة الأمراض العضوية والنفسية هو الآتي، الأمراض العضوية قد تظهر علاماتها منذ الولادة كأنيميا البحر المتوسط، أو يُولد الطفل طبيعياً للغاية، وتظهر عليه الأعراض مستقبلاً كالأنيميا المنجلية. أما الاضطرابات النفسية فهي تحتاج عاملاً مُؤثراً على الجينات، حَيث يكون الشخص حاملاً للجين المصاب، وعُرضة للإصابة من يوم الولادة ولكن لا تظهر العلامات والأعراض، ويَعيش حياةً طبيعية إلى أن يَشبّ ويَكبُر، ويتعرض لبعض الضغوطات الحياتيّة من البيئة المحيطة به، حينها تنتعش تلك الجينات وتستيقظ، وتبدأ بالتأثير على الشخص سلباً بظهور الأعراض، لهذا فمعظم الأمراض النفسية تكون نتيجة لعوامل وراثية وبيئية في الوقت ذاته». نواقل الحياة مع تطور العلم والمعرفة، اكتشفت البشرية ما كان موجوداً منذ بدء الخليقة، وهو الباطن المفقود الذي يُعتبر أحد أهم أسباب التفكّر بعظمة خلق الله ألا وهي «النواقل العصبيّة» أو كما سميتها شخصياً «نواقل الحياة». ما هو مذهلٌ حقاً هو أننا كبشر نختلف بأمورٍ كثيرةٍ جداً، ولكن نتفق على لغةٍ عالمية يَعرفها الجميع.. وهي لغة الكهرباء والنواقل العصبية. الدماغ لا يَفهم سوى لغة «الكهرباء»، فهو يُحوّل أيّ إشارةٍ يَستقبلها الجسد من السمع، أو البصر، أو التذوق وغيرها إلى إشاراتٍ عصبيّة يفهمها ويُحللها، ثم بعد ذلك يَرى الإنسان ما يَراه ويَسمع ما يَسمعه وكله عن طريق الدماغ ولغة الكهرباء. الأمر نفسه يَنطبق على النواقل العصبية، فالسعادة والحزن وباقي المشاعر سببها أمورٌ ظاهرية كثيرة، وتختلف أسباب هذه المشاعر من شخصٍ لآخر، ولكن مُسبب هذه المشاعر هو لغةٌ باطنية واحدة لا نلقي لها بالاً، وهي لغة الكهرباء والنواقل العصبية. المشاعر جميعها يُتَحكّم بها من خلال هذه النواقل، وما إن تطرأ أحد الاضطرابات التي تُخل بتوازن هذه اللغة، حينها تبدأ أعراض ومشاكل النفس البشرية. أهم أمثلة النواقل العصبية التي تلعب دوراً مهماً بالنفس هو «السيرتونين»، «الدوبامين»، و«نورابينيفرن». هذه النواقل لها وظائف متعددة بالجسد، ومن أهم هذه الوظائف تحويل مشاعر الإنسان للغة يَفهمها الدماغ ومن ثَم تُترجم بسعادة الإنسان أو حزنه وغيرها. أيضاً هذه النواقل تلعب دوراً مهماً بنوم الإنسان، فالإنسان يَحتاج للنوم لتجديد طاقته والحفاظ على صحة عقله، وعدم تجديد الطاقة يَجعلنا متوترين ومضطربين، فما بالكم بأناسٍ اختلت لديهم هذه النواقل؟ لهذا نرى بأن معظم الاضطرابات النفسيّة يَحدث بها خللٌ بالنوم، ويُعتبر النوم مؤشراً مهماً لصحة الإنسان عقلياً. توازن هذه النواقل مَطلبٌ أساسي لصحةٍ نفسية مستقرة، فالنواقل العصبية سلاحٌ ذو حَدين.. ما إن اختل توازنها تحولت لسلاح دمار شامل لنفس الإنسان، والتدخل العلاجي ضروريٌ للغاية للسيطرة على هذا السلاح الفتاك. أنتَ بعيدٌ عَن ربك يختلف فهم الصحة النفسية بمجتمعنا، وفهم الأمر بشكلٍ خاطئ مع وجود البراهين والأدلة يَستدعي التصحيح. نحن مجتمعٌ تربّينا على الإسلام منذ الصغر، وربط الدين بأمور الحياة جيّد كنوع من التحفيز لفعل الخير وكَسب الأجر، ولكن بعض الجوانب ربطها قد يُؤدي لمفاهيمٍ خاطئة غير قابلة للتغيير، ويَنتج عنها ضررٌ غير قابل للإصلاح، ومن الأمثلة على ذلك تفسير المرض النفسي بعدة أمورٍ منها «أنت بعيدٌ عَن ربك..» التي دائماً ما تُربَط بشكوى الاكتئاب، والحث على الصلاة والقيام والصوم في سبيل أن يَكف المريض عن الشكوى الوهمية بنظر القائل، على الرغم من أن الأمراض النفسية ليست لها علاقة بمدى تديّن الشخص أو فساده، قد تجد البعض فاسداً لا يَعلم كيفية الصلاة ولم يَصم يوماً بحياته وليس به أي علةٍ نفسية من اكتئابٍ وغيره، وقد تجد الصائم والقائم على الصلوات الخمس وهو يُعاني من الاكتئاب. الاكتئاب هو أحد أكثر الاعتلالات النفسية انتشاراً حول العالم. وخطورة الاكتئاب تكمن في مضاعفاتٍ لا يمكن التراجع عنها كغيره من الأمراض العضوية. أيضاً ما قد لا تعرفه عن الاكتئاب أنه ليس شرطاً أن يَشكي المصاب به بخطبٍ ما، بل قد لا يَعرف أنه مُصابٌ به، وعادةً من يَفتقد لذة الفرحة والابتسامة يُحاول أن يُفرّح ويُسعد غيره، لهذا قد تجدهم أسعد الناس ظاهرياً وأكثرهم حُزناً داخلياً. يبدأ الاكتئاب بإحساسٍ غريب يَشعرُ به الشخص.. شعورٍ بالضيق وعدم الارتياح لسببٍ مَجهول، لا يَعلم ما هو تحديداً، ولا يَعرفُ من أين مَصدره، فيبدأ بالتحرّي والتقصّي دون جدوى، ويَبدأ الإنسان بإعطاء التبريرات الذاتية أنّ كل شيء على ما يُرام، ويُخبر نفسهُ أنه ليس هُناك شيء يدعو للقلق ولعله أمرٌ عابر يأتي مرّةً دون عَودة، ومن هُنا تبدأ مَرحلةُ الصِراع الداخلي بين الحقيقة والخيال. الإنسان المُصاب بالاكتئاب يَظُن أنه يَتوهّم الأعراض لعدم عثوره على سببٍ ما لها، فهو واعٍ تماماً أنه يَشعر بالحُزن والضيق وعدم الارتياح، لكن دماغه الواعي يَرفض تَقبّلها لعدم وجودِ سببٍ ما، إلى أن تَشتد الأعراض، ويُصبح الشخص غير قادر على احتمال ما يَشعر به دون سبب، فيبدأ بوضع أسبابٍ غير مَنطقية لحُزنهِ وضيقه بلوم نفسه وغيره، وتَستمر هذه الحرب وهذا الصراع يوماً بعد يوم، إلى أن يصل الإنسان إلى أقصى مَراحل التحمّل النفسي والذهني، ويبدأ بالتفكير لا إرادياً بإنهاء حياته، هذا التفكير المُستمر ما لم يَتوقف بالعلاج المُناسب قد يُنفَّذ دون تَردُّدٍ وتَحكم من قبل المُصاب. لنتحدث قليلاً عن الانتحار وما مفهوم المجتمع حوله. عندما يأتي الانتحار بالذاكرة تُربط الكلمة مباشرةً بالجحيم وعذاب النار، ولم يأخذوا بالحُسبان أن للانتحارِ أسباباً تُفقِد المُقدم على هذا الفعل أن يتحكم بنفسه. ومن غير المنطقي إقحام الانتحار نتيجةً للاكتئاب أو أي اضطرابٍ نفسي بالدين وعذاب الآخرة، فمريض القلب الذي لا يَنتظم على العلاجات قد يتوفى نتيجةً لمضاعفات الأزمة القلبية، والمريض النفسي كذلك إن لم يَتعالج قد تُزهَق حياته نتيجةً لمضاعفات المرض النفسي المُتَمثّلة في الأفكار الانتحارية غير القابلة للسيطرة، كلها تندرج تحت «المُضاعفات»، وليس تحت «مُنتحرٍ يَترتب له العقاب والعذاب». تداوي مُسببات الاكتئاب ما زالت غامضة، ولم تُعرف تحديداً حتى الآن، ولكن العامل البيئي مهمٌ للغاية، خاصةً بيئة الأطفال والمراهقين، فالأطفال قد يتعرّضون لمؤثراتٍ بيئية كالعُنف الأسري والمشاكل الأسرية، التحرش الجنسي، التنّمُر المدرسي والإحباط المعنوي الذي يؤثر عليهم بقية حياتهم دون أن يَشعروا.. أما المراهقون فهم فئةٌ مستضعفة ومنسية، وكلٌّ من الذكور والإناث لا يُمكن أن يُفشوا سِر أحاسيسهم لأقرب الأقربين خوفاً من الفهم الخاطئ وعدم التقبل، فتتراكم الأفكار، وتتجمع كقنبلةٍ موقوتة تنتظر أن تنفجر بأي لحظةٍ دون العلاج المناسب. الإسلام حثنا على التدواي بجميع أنواعه، بل جعله أمراً إلزامياً، والإسلام لم يُحدد التدواي لأمراضٍ معينة، فمرضى السرطان يَتداوون بالعلاج الإشعاعي أو الكيماوي، ومرضى السكري يتداوون بخافضات السكر والإنسولين، كذلك الأمراض النفسية لها علاجها، فالمريض من الواجب عليه طاعة ما حَث عليه الإسلام بالتداوي وعدم الإضرار بالنفس. اختلاف الصحة النفسية والراحة النفسية أمران مختلفان، فالصحةُ النفسية اتزانٌ بعواطف ومشاعر الإنسان، وتعرّض الفرد للضغوطات الحياتية لا يستدعي الإصابة بالاضطراب النفسي ما إن لم يكن لديه قابلية جينية ليختل التوازن بصحته، أما الراحة النفسية فهي راحةٌ واستمتاع يَجدها الشخص بأمور الحياة، ومن المهم للبشر اتخاذ الأسباب العلاجية أيضاً. الخليط ما بين صحة الإنسان بالتدواي كما أمر الإسلام والراحة النفسية بما يَطيب للنفس هو الطريق الأمثل لعيش حياةٍ يَنعم بها من أصيب باعتلال نفسي بالراحة والاتزان في آنٍ واحد. انفصام الشخصية هو مرضٌ نفسي مزمن يُصيب الإنسان نتيجةً لعوامل بيئية من ضغوطات حياتيّة متكررة عاشها الإنسان وقابلية جينية، حَيث إذا تعرض محيط الإنسان لمواقفٍ معينة، قابليته الجينية تَجعله معرضاً للإصابة بهذا المرض الذي يؤدي إلى عدم اتزان النواقل العصبيّة بالدماغ، ويُصبح الشخص غير قابل للتفريق بين الوهم والواقع. انفصام الشخصية من الأمراض التي يعيش فيها الإنسان جحيماً لا يَراه أحدٌ سوى المريض، فالمصاب لا يَعيش الحاضر، ولا يَعيش المستقبل أيضاً، بل يَعيش في وهمٍ مُرعب يَتملّكه دون أن يَشعر، فيرى اللا موجود، ويَسمع اللا مسموع. يبدأ انفصامُ الشخصية بهلاوسٍ على عدة أشكال، إما أن يَسمع الشخص أصواتاً تَهمسُ إليه، أو يَرى أُموراً يَظن فعلاً أنها موجودة، أو قد تكون على شكل هلاوسٍ حسيّة يشعُر بها الشخصُ المصاب. في بادئ الأمر يَستقبل المُصاب هذه الهلاوس بشكلٍ طبيعي، ويَعتقد أنها من وحي الخيال، إلى أن يَزداد ذلك الصوت، أو يبدأ ذلك الشخص الوهمي الذي يَراهُ المُصاب بالتحدث إليه يومياً، حينها يبدأ الجحيم الحقيقي لانفصام الشخصية. الصوت قد يُصبح صوتين، الشخص قد يُصبح شخصين، الإحساس الغريب قد يَتطوّر للإمساك بكَ ويسحبك للمجهول، والأسوأ من ذلك هو أنه من غير الممكن التخلص منها.. ويُصبح هذا الوهم حقيقةً بالنسبة لك لكي تُريح عقلك من إرهاق التفريق بين خيالك وواقعك. الوهم الذي يعيشه مريض انفصام الشخصية عادةً ما يُربط بجنونه، وهذا الربط نتج من عدم الاطلاع والعلم، عدم سماعك لتلك الأصوات أو عدم رؤيتك لأولئك الأشخاص لا يعني أنهم غير موجودين بالنسبة لمريض الفصام، ولا يعني أنهُ قد جُن جُنونه، الفصام مَرضٌ كغيره من الأمراض التي تُعالج، وبالعِلاجات والأدوية الصحيحة يَستطيع المُصابون بهِ عيش حياةً بتفكيرٍ سليم، وعقلٍ يستطيع التفريق بين ما هو موجودٌ فعلاً وبين اللاموجود من مسموعٍ ومرئي. مؤسفٌ أن يُربط أمرٌ كهذا بالجُنون، بل إن السبب الرئيسي لعدم بوح كثيرين بما يسمعونه ويَرونه ناتجٌ من نظرة يتوقعونها من قبل ذويهم بنعتهم بالجُنون، لأنهم أشخاصٌ طبيعيون إلى أن تبدأ تلك الهلاوس بالتراكم والازدياد والسيطرة، وتبدأ تتسرب تلك الهلاوس ظاهرياً، فتُلبس تُهمة الجُنون باطلاً، ويصل المرض إلى مرحلةٍ خطيرة من المضاعفات القابلة للتفادي إن كنتَ مُتقبّلاً ومُتفهّماً. علاج انفصام الشخصية قابلٌ للعلاج بجميع أنواعه، ونتائج عدم عِلاجه ومضاعفاته قاسية، فالعقل يَتدمر كلياً بسبب الهلاوس الصوتية أو الحسيّة التي يَسمعها أو يشعر بها المريض باستمرار، فعقل مريض الانفصام يَكون في أوج عَمله في بادئ الأمر، فكل هذه الهلاوس يُحللها الدماغ على أساس أنها موجودة وليست ضرباً من الخيال، فيعمل الدماغ فوق طاقته الاستيعابية، ولكن عندما يَتعب العقل ويَستسلم يبدأ بالضمور والتلف، فتلتصق تهمة الجنون على المريض للأبد دون رجعة لعدم إمكانية العودة لطبيعته، وسنتحدث عن مفهوم الجنون لاحقاً. القُطبان تحدثنا عن التوازن الجسدي المعقد بجسم الإنسان، وكيف أن بِضعة نواقل دماغية قد تؤثر على مشاعر الإنسان المختلفة، وهذا هو النظام الذي وضعه الله بداخلنا كبشر، نحن لا نَسعد، ولا نَحزن، ولا نشمئز دون قواعد جسدية تحكمنا كسائر الجسد، فكل جهاز مكوّن من أعضاء مسؤولةٌ عن عَمل شيءٍ معين، ومَشاعر الإنسان أيضاً يَحكمها الجسد كغيرها من الأجهزة والأعضاء. تخيل ماذا يَحدث عندما يُصبح الإنسان مُضطرباً، لا يَعرف متى يُصبح سَعيداً أو حزيناً.. تائهاً في دوامة مشاعره دون أن يَعلم كيف يُحدد ما يَشعر به، هذا ما يَحدث تماماً عندما يُعاني الشخص من «القطب الأحادي الهوسوي» عرف بـUnipolar Disorder أو «الاضطراب الوجداني ثُنائي القطب» ويُعرف بـBipolar Disorder. القطب الأحادي مرضٌ يتكون من قُطبٍ واحد يَتمثّل في نوبات وأعراض هوسيّة شديدة للغاية قد تُفقد المصاب به التفكير العقلاني الرزين، قد يَظن أنهُ نبي الله المُرسل، قد يَظن أنهُ مَلكٌ مُنزّل، قد يَعتقد أنهُ إلهٌ مُبجّل، قد يَظن أنهُ كيانٌ لا يُقهر. ثُنائي القطب مرضٌ آخر وتشخيصٌ آخر، وهو دالٌ على اسمه، فهو يحتوي على قُطب هوسي أقل حِدّة من أحادي القطب، بالإضافة للقطب الاكتئابي الذي يتأرجح بينه وبين القطب الهوسي والعكس صحيح. هذان المرضان يُصيبا مَشاعر الإنسان باضطرابٍ شديد، فالقطب الأحادي يَجعل الإنسان مرتفع المزاج بشكلٍ غير طبيعي إطلاقاً، مما يؤثر على تصرفات الشخص المصاب بالمجتمع ويَظنون أن الجنون أصابه، والاضطراب الوجداني ثنائي القطب هو خليطٌ ما بين ارتفاع المزاج غير الطبيعي بشكلٍ مفاجئ وما بين انخفاض المزاج الاكتئابي بشكلٍ مفاجئٍ أيضاً، قد ترى المصاب بالاضطراب الوجداني مبتسماً ضاحكاً ويتغيّر بالبكاء والنحيب، كما أن الاضطراب الوجداني ثنائي القطب يأتي بعدة أشكال مُختلفة، وليس شرطاً أن يَتشابه المُصابون بالأعراض ذاتها، فقُطب الحُزن قد يَتمثّل في البُكاء، التفكير بسلبيّة، قِلة النوم، ضعف التركيز، التعب والإرهاق.. أما القُطب الآخر يَتمثّل في حركة مُستمرة، أفعال طائشة وغير عقلانيّة، أفكار مُتطايرة وغير واضحة، عصبية غير مُبررة وضلالاتٍ فكرية إن كانت الأعراض شديدة كادعاء النُبوّة أو ادعاء الألوهيّة وغيرها. لقد رأينا العديد من المقاطع المؤلمة لأشخاصٍ يَدّعون النُّبوّة والألوهيّة يُعامَلون بأسوأ وأبشع الطُرق من ضربٍ مُبرِح، وشتمٍ قاسٍ، وبراءةٌ من قبل الأهل والأصحاب لأجلٍ مرضٍ أُصيب به المريض، وظنوا به ظن السوء أنه قد كفر وخرج من المِلّة أو أنه قد جُنَّ وفقد عقلهُ تماماً دون عودة، والقصص بهذا الخصوص كثيرةٌ جداً ومؤلمة، وبراءةُ الأهل قبل المُجتمع أشدُ وقعاً على نفس المريض رُغم اعتلالها ومرضها. الكتاب: الجُنون والعَظمة الناشر: دار مدارك المؤلف: عبدالله قدير التصنيف: فكر وفلسفة عدد الصفحات 187
مشاركة :